طلال سلمان

استعادة لوقائع الهزيمة العربية في فلسطين: العرب يغتالون مستقبلهم.. هرباً من المواجهة!

عندما يخرج العرب من فلسطين فإنهم انما يخرجون من التاريخ، ويعودون إلى انقساماتهم ما قبل الاسلام ودولته: قبائل وعشائر مقتتلة على الماء والكلأ.. حتى لو صار الماء ذهباً أسود والكلأ غازاً ابيض.

وهاهم الآن يتوزعون بين معسكري الثروة، ومعسكر الحاجة والعوز..

وللثروة مرجعها الأميركي، و”الوسيط” دائماً، بل “الشريك” هو اليهودي الذي باتت كنيته الآن “الصهيوني” ممثلاً بدولة اسرائيل التي تعادل في اهميتها ولاية واشنطن الاميركية.

على هذا فتحرير فلسطين بات في منزلة الأماني والأحلام..

ذلك أن تحريرها يتطلب، بداية، وحدة العرب.. وبين المستحيلات، في اللحظة الراهنة، توحد أغنياء العرب بالنفط والغاز مع فقراء العرب متسولي القروض والمساعدات والهبات والشرهات لكي يتمكنوا من حفظ دولهم الفقيرة والتي لا تملك امكانات النهوض والتقدم وصولاً إلى الاكتفاء الذاتي..

ثم أن اغنياء العرب بالنفط والغاز مرتبطون عضوياً بالقرار الاميركي، الذي لا يمكن أن يكون مضاداً او مناهضاً لمصالح الصهيونية التي تتقاسم مع الادارة الاميركية رعاية “اسرائيل” كمشروع سيطرة على منطقة المشرق الغنية بالثروات، نفطاً وغازاً، فضلاً عن موقعها الاستراتيجي الذي يتوسط العالم وتتركز فيه عقدة المواصلات بين الشرق والغرب.

ولعل العرب، عموماً، قد تأخروا في إدراك خطورة المشروع الاسرائيلي، فتعاملوا معه، بداية، كحنين تاريخي عند “يهودهم” قبل أن ينتبهوا إلى انه يتجاوز ذلك بكثير، لا سيما إذا ما ربط بتقدم الاميركيين نحو المشرق العربي الذي يمكن التأريخ له بذلك اللقاء الاستثنائي بين الرئيس الاميركي المنتصر في الحرب العالمية الثانية، روزفلت، وملك السعودية، البدوي، عبد العزيز آل سعود، صاحب اغنى ارض، بالنفط.

ولقد ساعدت الحرب العالمية الثانية، وتفوق الغرب الاميركي معززاً بانتصارات الاتحاد السوفياتي الداخل حديثاً إلى المسرح الكوني، في بلورة المشروع الصهيوني وإعطائه بعداً عالمياً جديداً يتمثل بعنوان “الاضطهاد النازي لليهود” و”المحارق” في بولونيا وانحاء اوروبية أخرى… مما أعطى مسألة “مظلمة اليهود” هيئة جريمة فظيعة ضد الانسانية، لا بد من علاجها بإقامة دولة يهودية على ارض فلسطين، ترعاها دول العالم اجمع، شرقاً وغرباً، بدليل أن روسيا كانت الصوت الاول في تأييد اقامة هذه الدولة اليهودية، التي سوف تسمى “اسرائيل” فوق ارض فلسطين … وهي بهذا قد سبقت الولايات المتحدة الاميركية.

هكذا قربت الوقائع الميدانية والتطورات السياسية الحلم الصهيوني الذي كان بشر به هرتزل، والذي نقله وزير خارجية بريطانيا اللورد بلفور إلى عالم السياسة عبر “وعده” الشهير بإقامة دولة ليهود العالم فوق ارض فلسطين… بعد تناسي أو تجاوز أو إهمال التعهدات البريطانية لأمير مكة المكرمة والحجاز الشريف حسين بن علي الهاشمي بجعله ملكاً على العرب، وتحريضه على دعوتهم للثورة على الاتراك، تمهيداً لإقامة او إعادة مملكة العرب الموحدة تحت عرشه.

نحو امبراطورية إسرائيل..

ولعل الحرب العالمية الثانية قد رسمت بخواتيمها، ومن ضمنها المحارق النازية ضد “اليهود” نقطة التحول العظمى في المشروع الصهيوني لفلسطين، اذ تحول من دولة بإمكانات محدودة على بعض ارض فلسطين، إلى مشروع امبراطوري للحركة الصهيونية تحت الرعاية الاميركية، مع تأييد سوفياتي، وتعاطف دولي نتيجة المحارق النازية ضد اليهود، ولو كذريعة وتبرير..

وكان العرب في غفلة عن هذه التحولات، يعيشون خيبة الأحلام التي تلقوها من الغرب، وينصرف كل قطر إلى صياغة دولته في كيانه المستقل، تاركين مشاريع الوحدة والاتحاد والتقدم للأحلام.

على الضفة الأخرى، كانت “الدول” العربية المرتهنة للاحتلال البريطاني او الانتداب الفرنسي، أضعف من تواجه مشروعاً مسلحاً بكل هذا الدعم الدولي الذي يترجم نفسه بدبابات تنقل فوراً إلى ارض فلسطين بطواقمها، وفوقها طائرات حربية بطياريها وجنود تم تدريبهم في ميادين الحرب العالمية الثانية، كما تم تجهزيهم بالخبراء والسلاح ليباشروا “حرب التحرير” ضد الدول العربية المجاورة التي ليس لها جيوش فإن توفر العديد فليس في يده سلاح، ولا طائرات او دبابات او مدفعية ثقيلة.

على هذا فإن الحرب الاسرائيلية لاحتلال أكثر من نصف فلسطين، مع الشاطئ على المتوسط، كانت اشبه بنزهة: فلا الشعب الفلسطيني مجهز ومهيأ لحرب ضد جيش حديث، خصوصاً وان المقاتلين مجموعات من المتطوعين بقيادات متعددة وناقصة الكفاءة القتالية لحرب حديثة، في حين أن لليهود جيشا حديثاً بطائرات حربية ودبابات وضباط مؤهلين وجنود سبق أن قاتلوا وتم تدريبهم (وتسلحيهم) ضمن جيوش الحلفاء.

ومعروفة هي الوقائع المتصلة بتلك الفترة: حصار الكتيبة المصرية التي دخلت فلسطين بقيادة الشهيد احمد عبد العزيز وبين ضباطها جمال عبد الناصر، واستمرار هذا الحصار حتى “الهدنة”.. وكذلك حكاية “جيش الانقاذ” الذي تشكل في غمرة الحماسة بقيادة فوزي القاوقجي وعجزه عن التقدم فضلاً عن الانتصار على جيش ممتاز التدريب وممتاز في تسلحه وبقيادة مؤهلة… وبالطبع فان المتطوعين ممن تركوا الجيش السوري ليذهبوا إلى الحرب، ومعهم بعض القادة السياسيين (أكرم الحوراني، مثلا) كانوا قلة شجاعة تدخل حرباً حديثة بالبنادق معززة بالحماسة.

لا ضرورة للسؤال عن النتائج: لقد هُزم العرب، وقامت دولة اسرائيل، قوية بسلاحها وبالدعم الدولي الكاسح.. وقد تركت الضفة الغربية، إلى موعد آخر، فاستفاد الامير عبدالله من الفرصة المتاحة وضم الضفة إلى إمارته في شرق الاردن فصار ملكاً، بينما هو يهتف لفلسطين..

ولقد اغتيل هذا الملك وهو خارج من المسجد الاقصى بعد ثلاث سنوات الا قليلاً من إقامة دولة اسرائيل.. وكان قد اغتيل في السنة ذاتها والشهر نفسه (يوليو 1951) رئيس حكومة لبنان، الراحل رياض الصلح، بينما كان في زيارة لعمان.

الغزوة ـ دولة عظمى!

هذه نتف من حكاية العرب مع فلسطين والمشروع الصهيوني الذي استقبله قادتهم وكأنه “غزوة” سرعان ما تنتهي “بمصالحة” تعطي كل طرف فيها “بعض” الحق، فتقوم على ارض فلسطين دولتان: احداهما اقوى من مجموع العرب، والثانية اشبه بإعلان عن ضعفهم.. وبالتالي فقد تقزمت إلى “سلطة” تعجز عن حماية شعبها، وعن “توحيد” ما أعطي لها من ارض فلسطين، فظل “قطاع غزة” مستقلاً عن الضفة حيث السلطة التي لا سلطة لها. وبالتالي فان فلسطين جميعاً تحت الاحتلال الاسرائيلي بعد..

يمكن الاضافة أن مسيرة “الصلح” مع العدو الاسرائيلي مستمرة، بدواعي العجز عن مقاومته خصوصاً وقد باتت اسرائيل مركز الثقل في مشروع الهيمنة الاميركية الكاملة على المنطقة العربية (التي تم تبديل اسمها إلى “الشرق الاوسط” لأسباب تتصل بمركز الهيمنة العالمية على العالم، واشنطن..)

وهكذا فقد العرب مع الارض هوية وطنهم الكبير، بما فيه ممالك الذهب الاسود وامارات الذهب الابيض، التي لم تتأخر عن استيعاب دروس الهزيمة، فاستقلت بثرواتها، تحت المظلة الاميركية، وذهبت إلى العدو القومي، اسرائيل، مصالحة .. وبشروطه.

والكفاح دوار…

لكن شعب فلسطين ما زال يقاوم، بلحمه الحي.. وآخر الوقوعات المذبحة التي ارتكبها جيش الاحتلال الاسرائيلي ضد الشباب والاطفال والنساء العزل الذين خرجوا إلى قرب السور المكهرب، يتظاهرون طلباً للحرية وتوكيد هويتهم الوطنية (العربية)، فكانت النتيجة أن اسقط العدو اكثر من مائتين وخمسين شهيداً وآلاف الجرحى والمعاقين..

مع ذلك فالقضية حية، وكلما نسيها أهلها العرب ذكرهم الفلسطينيون منهم بدمائهم أن الحرب لما تنته، وان في فلسطين شعباً حياً يقتل باسم امته ولأجلها من اجل الحرية والاستقلال والعزة والكرامة، وحق الوجود.

والكفاح دوار .. وان غادره الخارجون على إرادة الأمة وحقها في الحرية والمستقبل الأفضل.

تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية

Exit mobile version