طلال سلمان

»استشهاديون« لحكومة عهد ثانية

هل من مجال، بعد، لتصحيح النظرة أو طريقة التعامل مع نتائج الانتخابات النيابية، واستطرادا المجلس النيابي الذي ولدته، ومن ثم موضوع الحكومة الثانية في هذا العهد، بحيث تخرج من دائرة الانتقام أو رد التحدي؟!
لماذا يُفرض علينا أن نبدأ بالمقلوب: من يشكّلها وممّن؟! وهل تضم الأقوياء بقدراتهم العلمية وخبراتهم العملية، أم تضم الأقوياء في طوائفهم والأقوياء بطوائفهم؟ وهل تكون حكومة وفاق وطني أم حكومة تسعى إلى مصالحة الدولة مع الذين رفضوها فقاتلوها أو خرجوا عليها فامتنعوا عن المشاركة فيها؟!
لماذا نبدأ بالمقلوب: نقدم الوسيلة على الغاية، ونتعارك على المزاج بدل أن نتحاور في البرنامج؟! لماذا نغرق في الشروط المفترضة وفي الشروط المضادة وهي أيضا مفترضة… هذا غير مقبول لأنه لم يقبل، مرة، بشروطنا، وذاك مطلوب لأنه لا يشترط إعادة النظر في توزيع مواقع السلطة وصلاحياتها؟ ذاك أقوى مما يجب، وبالتالي فهو شريك متعب، وذاك مريح لكنه قد يستفز الشارع فيتعب الجميع؟!
إن الحاجات والمطالب أوضح من أن تحتاج إلى شرح.
فالأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد مستولدة مسلسلاً لا ينتهي من المشكلات الاجتماعية بين عناوينها الضائقة المعيشية والإفلاسات المتوالية بما ترتبه من تفاقم في نسبة العاطلين عن العمل، وانعدام فرص العمل التي تدفع بخيرة شبابنا إلى الهجرة بلا أمل في عودتهم، والفساد المستشري في المؤسسات والإدارات العامة والخاصة بسبب الرشوة المبررة بضيق ذات اليد الخ…
كل ذلك يفرض نفسه، كجدول أعمال لا يتحمّل الإرجاء أو التأخير في العلاج، وبوسع أبسط المواطنين أن ينظم برنامجا للحكومة العتيدة وأن يتلو عن ظهر قلب بيانها الوزاري المفترض.
لقد ذهبت أيام الترف أو البحبوحة ولن تعود في المدى المنظور، كذلك فإن »السياسة«، بمعناها اليومي المألوف، لم تعد تشغل المواطن إلا بمقدار ما يعتبرها المعبر الإجباري لقيام حكومة توفر له احتياجاته وتنقذ البلاد من خطر الانهيار تحت وطأة الدين العام وخدمته والعجز المتفاقم في الموازنة وانعدام الأسواق لمنتجاته وفرص العمل لشبابه المؤهل (وغير المؤهل، على حد سواء)…
لقد سلَّم الجميع بالجميع في لبنان.
لم يعد أحد يرفض أحداً بعدما جرّب كل طرف إلغاء الطرف الآخر فاصطدم بالحقيقة الصلبة: ان الكل موجود، ولكل »شرعية« وجوده، إن لم يكن بالسياسة فبالدين، إن لم يكن بالإيديولوجيا فبقوة التمثيل.
إن أحزابا تنشق الآن لأن مرشحيها سقطوا في الانتخابات.. وإن أحزابا تنشق لأن مرشحيها نجحوا في الانتخابات.
إن طرفي »حرب الجبل« بالأمس يلتقون على »ميثاق« من أجل المستقبل.
وبطل »حرب التحرير« ثم »حرب الإلغاء« يستقبل الموفدين لإقناعه بوقف الحرب الثالثة والمفتوحة على اتفاق الطائف لكي تُفتح أمامه أبواب العودة التي فتحتها الانتخابات بالأمس لشريكه السابق في »منفاه«، وشريكه من قبل في منع انتخاب رئيس جديد أو بالأحرى إلغاء رئاسة الجمهورية ومن ثم تغييب الدولة ومؤسساتها الشرعية.
إن لبنان يحتفل اليوم بذكرى اغتيال بشير الجميل وذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا في الوقت ذاته، ولو بجمهورين منفصلين.
كذلك فإن الخارجين على »القوات اللبنانية«، بالأمس، لكي ينضووا تحت راية التحالف العريض المؤيد للدور السوري في لبنان في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي، ومن ثم الاحتلال الذي أجلته دماء المقاومين والصامدين قبل مئة يوم، يجرون نوعاً من النقد الذاتي ويظهرون شيئاً من الندم، بينما كثير من الذين بقوا في تلك »القوات« تسللوا عبر الانتخابات إلى الموقع المضاد.
فهل تستأهل الحكومة الجديدة حروبا في مثل قسوة »حرب الإلغاء« أو »حرب التحرير« أو »حرب الجبل« ناهيك ب»حرب الضاحية« والحرب على بيروت، وسائر الحروب بين المتخاصمين الذين صاروا متماثلين أو المتماثلين الذين صاروا متخاصمين؟!
إن من يُقدم الآن على تشكيل الحكومة في لبنان »فدائي« إن لم نقل إنه »انتحاري« أو »استشهادي« بالتعبير شبه الديني.
إن الحكم مغامرة دائما، لكن حكم لبنان مدين بخمسة وعشرين مليار دولار يتعدى المغامرة إلى المخاطرة، كمن يقذف بنفسه من الطائرة وهو يشك سلفا في أن مظلته ستنفتح في اللحظة المناسبة.
والحكومة الجديدة تكاد تكون مباراة بين مغامرين معظمهم غير مزود بالمظلة الواقية..
إن الحكم، كما يُقال، تكليف لا تشريف، وهو في هذه الفترة بالذات يكاد يكون »عقوبة«.
فليتقدم المغامرون إلى »العقوبة«، وليترك للأزمة أن تمتحنهم، فمن فشل أكلته ومن نجح وحقق المعجزة كان له أجران: أنه ساهم في إنقاذ وطنه، ثم انه استنقذ نفسه من مصير كان البعض يراه محتوماً.
إن الحكم هو الامتحان الأخطر، فليتقدم إليه كل طامح، فحسابه سيكون مع هؤلاء »الجائعين« إلى ضحية يحمّلونها المسؤولية عما هم فيه من ضنك وضيق في الصدر كما في ذات اليد.
وما أبأس مثل ذلك المصير!

Exit mobile version