طلال سلمان

استحالة افتراق على اختلاف وانتظار »المبادرة« لتثبيت توافق

على امتداد الأيام الثلاثة لمؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد بقوة الضرورة، استمتع اللبنانيون بالصور التي كانوا يتشوقون إلى رؤيتها: قياداتهم السياسية ممن يختلفون على كل شيء تقريباً، يتلاقون فيتصافحون، ويكاد بعضهم يتشهى العناق، يتأملون بعضهم بعضاً، يستمعون إلى بعضهم البعض، »يتساكنون« في مكان واحد لساعات طويلة نهاراً ويتسامرون ليلاً، يبتسمون للجمهور عبر الإعلام، ثم يطمئنونه إلى أنهم لا بد سيتفقون على الخير..
ومع ارتياح اللبنانيين إلى انعقاد المؤتمر بنجاح، وإلى انطلاق النقاش وامتداده إلى ساعات طويلة في ثلاثة أيام لها ما بعدها، حول أمور يراها بعضهم من البديهيات ويعتبرها البعض الآخر من المستحيلات، فإنهم كانوا يعرفون أن الاختلاف سيفرض نفسه، في النهاية، وإن ظلوا يأملون أن يتوصل المؤتمرون إلى تنظيمه حتى لا يتسبب عدم اتفاقهم بكارثة تتهدد وحدتهم وقد تذهب بدولتهم. ذلك أن ما يكون »سياسياً« على السطح سرعان ما يتكشف مضمونه الطائفي أو المذهبي مستحضراً مناخ الفتنة.
الاتفاق صعب جداً على المؤتمرين الآتين من إيديولوجيات وتوجهات وارتباطات سياسية مختلفة، لكن الافتراق على اختلاف مستحيل، لأن أحداً منهم لا يستطيع أن يتحمّل مسؤوليته.
وفي ما عدا التوافق السهل على أنه من الضروري أن يكمل التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري مساره الطبيعي في اتجاه المحكمة ذات الطابع الدولي، فإن كل ما تبقى من بنود يكاد يختزلها القرار الدولي 1559 هي موضع خلاف جدي يكاد ينعدم معه الحل الوسط.
في هذا القرار ما يحكم بلا شرعية التمديد لرئيس الجمهورية. لكن التمديد حصل وفق منطوق الشرعية الدستورية.. ولن ينقض هذه الشرعية ادعاء بعض الذين أعطوا أصواتهم للتمديد أنهم أجبروا على ذلك. واللبنانيون يعرفون ما يكفي عن الجميع بحيث سيرون في »الاعتراف« المتأخر بالذنب المتقدم شبهة إكراه مختلف المصدر.
ثم إن »خلع« الرئيس القائم بالأمر يحتاج إلى أكثرية غير متوفرة، يزيد من تعقيدها الاختلاف على شخصية البديل الذي يشكّل »التوافق« عليه سبب وصوله إلى سدة الرئاسة.
أما البنود الأخرى في القرار الدولي فتطرح قضايا جدية تجعل من الانقسام حول شخص الرئيس مجرد عنوان ساذج للاختلاف السياسي العميق بين القوى السياسية في لبنان.
وليس سراً أن ثمة من يطرح أسئلة جدية ومفصلية حول هذا القرار وحتمية الالتزام بمنطوقه الحرفي..
فالقرار، بداية، لم يصدر بطلب من السلطة الشرعية اللبنانية ممثلة بحكومتها (وقد كان يرأسها آنذاك الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي لم يتأخر عن إعلان اعتراضه الجدي عليه، وشاركه في ذلك العديد من حلفائه السياسيين أبرزهم وليد جنبلاط).
لا هو جاء نتيجة شكوى رسمية تقدم بها لبنان، ولا كانت السلطة الشرعية في لبنان معطلة بحيث يضطر مجلس الأمن إلى التدخل، حرصاً على الوحدة الوطنية أو على الاستقرار في المنطقة.
ثم إن القرار يتضمن في نصه إملاء على السلطة في لبنان إذ يقرّر لها كيف يمكن أن تتعاطى مع المقاومة الوطنية ممثلة ب»حزب الله«، مصنفاً هذا التنظيم الذي حرّر الأرض من الاحتلال الإسرائيلي بدماء مجاهديه، ب»الميليشيا«.
كذلك فإن القرار يملي على السلطة كيف تتعامل مع الفلسطينيين، ممن أكرههم الاحتلال الإسرائيلي لبلادهم على اللجوء إلى لبنان (وأقطار عربية أخرى)، وفرضت عليهم ظروف اللجوء إلى غير وطنهم حياة فيها من امتهان الكرامة والإذلال ما لا تعوّضه الشهامة وحدها.
فأما ما يتصل بالوجود العسكري السوري فقد اعتبر بحكم المنفذ بعد الزلزال الذي ضرب لبنان وعلاقته بسوريا بعد اغتيال رفيق الحريري.
وعلى هذا فالنقاش حول لبنانية مزارع شبعا، ومعها تلال كفرشوبا، أو حول السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وحول المهانة الإنسانية التي يعيش في ظلها اللاجئون الفلسطينيون في المخيمات، هي »تفاصيل« يعمل رافضو الوفاق الوطني على تعظيم حجمها لحجب أساس المشكلة… وتكون النتيجة إغراق المؤتمر في سفسطة تفقده جديته وتضرب احتمال التوحّد حول الجوهري من المسائل الخلافية المطروحة.
أما الباب الذي ما زال موصداً على مكمن السر فذلك الذي يؤدي إلى المناقشة الجدية للعلاقات اللبنانية السورية… فمن ذلك الباب يمكن الولوج إلى جذور الخلافات بين المؤتمرين…
وبالمصادفة التاريخية وحدها (؟) تجيء زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى المملكة العربية السعودية، في لحظة انعقاد مؤتمر الحوار الوطني في بيروت، وخلالها يبدل شيراك في كلماته وفي نبرته حول سوريا ونظامها حتى وهو يطالبها بسياسة جديدة إزاء لبنان.
وبالمصادفة التاريخية (وحدها) يجيء الخطاب الجديد للرئيس السوري بشار الأسد أمام مؤتمر الأحزاب العربية، وهو جديد »لبنانياً«، بمعنى هدوء اللهجة، واختيار الكلمات بشيء من الدقة، والترحيب بمؤتمر الحوار الوطني والاستعداد لعلاقات جديدة مع لبنان مختلفة عمّا كان قبل دهر، أي قبل جريمة اغتيال رفيق الحريري.
لعل هاتين الإشارتين المتزامنتين مع انعقاد مؤتمر الحوار الوطني تدلان على »تحوّل« قد يبشّر بمبادرة جدية تشارك فيها مصر التي يواصل رئيسها اتصالاته مع كل من القيادتين السعودية والفرنسية، فضلاً عن الرئيس السوري، ويكون على هذه المبادرة أن تنجز ما لا يستطيع المؤتمرون في بيروت الوصول إليه باجتهاداتهم الذاتية، وإن كانوا قد نجحوا في التمهيد له بصور اللقاءات الودية ومناخ المصارحة الذي ساد مناقشاتهم فاتحاً المجال رحباً لتجديد الوحدة الوطنية من دون الحاجة إلى وصاية دولية.. حتى لو تمثلت بمجلس الأمن.
فإذا صحت هذه التوقعات يكون المؤتمر قد مهّد الأرض للمبادرة المرتجاة، والتي وحدها يمكن أن تحل الإشكالات جميعاً، بعيداً عن منطق الوصاية والفرض المسيء إلى الكرامة الوطنية: فتح الباب لإعادة العلاقات اللبنانية السورية على قواعد الاحترام المتبادل وحماية المصالح المشتركة، التفاهم في مناخ صحي على دور المقاومة الوطني مستقبلاً من ضمن سياسة وطنية للدفاع عن أرض الوطن وكرامته، ومن ثم إعادة صياغة العلاقة على قواعد سليمة تحفظ كرامة الفلسطينيين في لبنان، ومن ضمنه تتم معالجة مسألة السلاح خارج المخيمات (وتنظيمه داخلها)..
وأخيراً، بل ربما نتيجة لهذا كله، يمكن أن تحل المسألة العالقة: مصير رئاسة الجمهورية، بجانبيها، أي ما يتصل منها بولاية الرئيس إميل لحود، أو ما يتصل بشخصية الرئيس العتيد الذي يجيء نتيجة لمجمل التوافقات (في الداخل ومع سوريا عبر المبادرة العربية المعززة دولياً).
أما في ظل الاختلاف على المفاهيم جميعاً، من السيادة إلى الوصاية، ومن المقاومة إلى الميليشيا، ومن العنصرية إلى المعاملة الإنسانية في إطار وطني وقومي للفلسطينيين، (وكل ذلك من مقومات الهوية العربية للبنان) فسوف يعجز مؤتمر الحوار الوطني عن تحقيق أهدافه مهما حسنت النوايا.
وقديماً قالت العرب: تفاءلوا بالخير تجدوه.

Exit mobile version