… ولماذا هذه الضجة (الإعلامية) حول الجامعة اللبنانية وما تعانيه من أزمات متلاحقة تكاد تذهب بدورها الوطني، بعدما ألحقت أشد الأضرار بمستواها الأكاديمي وآذتها في سمعتها، إدارة وهيئة تدريس، يستوي في ذلك الأساتذة المتفرغون والطامحون لدخول الملاك والأساتذة المتعاقدون بأعدادهم المتزايدة وظروف التعاقد ومدى مراعاته للأصول، في دولة تكاد »الأصول« فيها تتحول إلى »تهمة«؟!
لماذا وبأي منطق يُراد للجامعة الوطنية أن تكون على حال مختلفة عن أحوال باقي المؤسسات والإدارات »الرسمية«، التي أصابها الوهن فشاخت قبل الأوان، وعجزت أو هي أُعجزت عن القيام بالدور العتيد الذي قامت أو أقيمت من أجله؟!
ليس في الدولة مؤسسة واحدة سليمة ومؤهلة لأن تؤدي ما هو مطلوب منها، بدءاً من مجلس الوزراء، أعلى سلطة تنفيذية، إلى هيئات الرقابة، إلى القضاء، إلى الإدارات المختلفة بما في ذلك المؤسسات العامة والمصالح المستقلة، مثل كهرباء لبنان والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومصالح المياه والمدرسة الرسمية وصولاً إلى المجلس الدستوري الذي أصابه الضرر في سمعته لكثرة ما أخضع لبورصة الأهواء والأغراض الشخصية في ظل ادعاء الحرص على »المستوى« حيناً وادعاء الحرص على التوازنات الطائفية أحياناً، وهي أولى بالمراعاة والحرص، أما الكفاءة فما أسهل تعويضها!
كذلك يبدو المجلس النيابي »معطوباً« و»قاصراً« عن ممارسة دوره الطبيعي، لأسباب موضوعية تتصل بواقع استيلاده قيصرياً عبر قانون أعرج للانتخابات يُعاد تفصيله في كل دورة بما يناسب »قوى الأمر الواقع« فتدمج محافظة بأخرى، وتقطّع ثانية إلى ثلاث دوائر، في حين »تقسم« محافظة ثالثة أفقياً بينما »تقسّم« رابعة عمودياً، وبما يناسب الغرض في تلك اللحظة… مما يغذي الطائفية ويحولها إلى »وحش«..
إن الجامعة اللبنانية تكاد تكون، بأوضاعها المزرية تلخيصاً مأساوياً لما أصاب الدولة في لبنان خلال دهر الحرب، ثم في ظل نتائجها المريعة التي لا يمكن اختزالها بما طرأ على الحياة السياسية من انحطاط، وما طرأ على الحياة الاقتصادية من انتكاسات قرّبت الدولة من الإفلاس، وما طرأ على الأوضاع الاجتماعية من انهيارات تنذر بمخاطر غير محدودة.
فالجامعة اللبنانية تكاد تكون صورة مجسّمة لواقع الدولة، وكذلك المجتمع في لبنان.
لا امتياز للجامعة الوطنية، بوصفها حاضنة جيل المستقبل وولاّدة الكفاءات العلمية والعقول التي تحتاجها البلاد، بل هي واحدة من الإدارات أو المؤسسات التي تتسع للتوظيف، إن لم يكن في الملاك فبالتعاقد.
ثم إن تطويرها لكي تلحق بالعصر، ولكي تبقى ملجأ وملاذاً لمتوسطي الحال والفقراء والمتمسكين بأن يدرسوا ويتخرّجوا من جامعة وطنية مؤهلة بما يتناسب مع الثورة العلمية في العالم ليكونوا جيلاً من القيادات والكادرات المعافاة وطنياً، المبرأة من الحمى الطائفية، والقادرة على الإسهام بكفاءتها في بناء وطنها الصغير، الذي طالما اعتبر نفسه طليعة في عالمه العربي… مثل هذا التطوير بات أشبه بمهمة مستحيلة في ظل الظروف القائمة.
إن الجامعة في نظر السلطة هذه السلطة وكل سلطة سبقتها واحدة من الإدارات أو المؤسسات الباهظة الكلفة القليلة الجدوى، لا هي قادرة على إلغائها كلياً (ورسمياً)، ولا هي مؤهلة لأن تساعد في بنائها لتكون ما يجب أن تكونه الأولى بامتياز، باعتبارها جامعة الوطن، ليست أجنبية وافدة تخرج كادرات ممتازة بكلفة عالية جداً لا يقدر عليها إلا الأثرياء، ولا يستطيع »تعويضها« كلفة تعليمها، إلا المهاجر الغنية، وباعتبارها أيضاً لا تتبع طائفة أو مذهباً، فتغلق أبوابها (وقلبها) دون الذين ينتمون إلى الطوائف والمذاهب الأخرى، وتخرّج أجيالاً متنابذين ومهيأين لخوض حرب أهلية جديدة »عندما تسنح الظروف«!!
إن هذه الجامعة الوطنية قد أصابها ما أصاب المؤسسات »الجامعة« عموماً من إهمال، معظمه مقصود، ومن تشويه، معظمه متعمّد، فكيف يمكن أن نتخيل أن تسلم هذه المؤسسة التي وجهت إليها الحرب الأهلية أولى ضرباتها القاتلة بأن فرضت عليها »التفريع« بمنطق بحت طائفي، ثم توالت الضربات فشملت إدارتها وهيكليتها جميعاً، وبات مجرد جمع الطلاب الخريجين من فرعين لكلية واحدة إنجازاً تاريخياً نادراً ما يمكن تحقيقه، فإن هو أنجز في لحظة مؤاتية اقتصر على الاحتفال بذاته، دون أي تأثير على الواقع التقسيمي المفروض على الجامعة، بإدارتها وأساتذتها وطلابها، والذي يكاد يلغي دورها العتيد.
تصوروا جامعة ب47 فرعاً، معظمها لا مبرّر لوجوده إلا موقعه بالنسبة لطائفة الطلاب المفترض انتسابهم إليه… في بلد مساحته 10 آلاف كلم2 لا غير!
وفي حين تتعاظم سمعة الجامعات الاجنبية وبعض الجامعات ذات الوشم الطائفي.
وفي حين تتوالد »الجامعات« و»المعاهد« الاجنبية التي تسمي نفسها »جامعات«، حتى زاد عددها عن الثلاثين، وتوزع عليها شباب »لبنان الجديد«.
وفي حين تذهب ملايين الدولارات اقساطاً لهذه المؤسسات التي لا تهتم بلبنان وطلبته إلا كاستثمار.
في هذا الوقت بالذات تتهاوى الجامعة الوطنية تحت الضربات المتلاحقة التي تأتيها »من بيت أبيها«: لا مبناها يكتمل بناءً، ولا المستوى الاكاديمي والذي يحكم التعيينات والترقيات في »كادرها«، بل ان الضغوط السياسية، وغالباً تحت الشعار الطائفي، تتدخل غالباً لتفرض الاقل كفاءة على حساب الأكفاء، ولا موازنتها الشحيحة والتي تعطاها بالشفاعات والوساطات تكفي لتطوير كلياتها ولبناء مراكز الابحاث الضرورية، ولتأهيل أعلى لكادرها التعليمي الخ..
وعلى مر سنين طويلة من الإهمال المتعمد، والاضرابات الموسمية التي غالباً ما تكون »ميزانية التشغيل« هي السبب المباشر فيها، تهاوت سمعة هذه الجامعة الوطنية التي كان يحتشد في هيئتها التعليمية اعلى الكفاءات العلمية، وكان »الكادر المتفرغ« فيها يضم نخبة ممتازة من المجلّين في اختصاصاتهم، وهم هم الآن يتوزعون على الجامعات والمعاهد الاجنبية يعطونها ثمرة أعمارهم مما حصلوه من علم (وتجربة) في الاختصاصات المختلفة.
ان هذا الصرح الوطني الذي يكاد يكمل الخمسين من عمره يتهاوى امام السلطة وأمام المواطنين… فلا »ميزانية التشغيل« تكفي للتطوير، بل هي بالكاد تكفي للرواتب والاجور وملحقاتها، ووزارة المالية هي التي تقرر كم تعطي الجامعة، وليس مجلس الجامعة الذي ما زالت صلاحياته موضع خلاف، ولذلك فهي محتجزة لدى مجلس الوزراء.
بل ان »ميزانية التشغيل« تتناقص عاماً بعد الآخر، وفي آخر مشروع لموازنة الدولة للعام المقبل لم يلحظ لها اكثر من 135 مليار ليرة، بينما كانت موازنتها في العام الماضي 155 ملياراً!
لكأن الدولة لا تريد جامعتها… بل لكأن السلطة تتآمر على الجامعة، فتتركها تترنح وتعاني من الضعف والارتباك والعجز عن القيام بالمهمة الوطنية الموكلة اليها، نتيجة المداخلات السياسية التي تتخذ من »التوازنات الطائفية« مدخلا شرعياً لضرب المستوى، او لفرض التمييز، او لافراغ الموقع من المعنى.
واللافت ان الناس، اهل الجامعة، يتعاملون مع قضيتها وكأنهم قد يئسوا من إصلاحها وإعادتها الى دورها المنشود.. فكيف يمكن ان تكون الجامعة »جزيرة وطنية« في محيط من الطائفيات والمذهبيات التي تكاد تخنق العباد البلاد، وعند كثير من المواطنين باتت الجامعة ملاذاً لإعفاء ابنائهم من »خدمة العلم«!!
وإلى من يمكن التوجه في طلب الإنقاذ؟
الى المشغولين بصراعاتهم على قمة السلطة؟
او الى المواطنين الذين يئسوا من اصلاح الجامعة، كما يئسوا من إصلاح سائر الادارات والمؤسسات الرسمية، قباتوا يسعون وراء »مصالحهم«، خارج كل ما هو رسمي، تاركين الجامعة لمصيرها.
وباختصار: قد تحل أزمة تمويل الرواتب وملحقاتها والتعويضات وبدلات التعاقد، لهذه السنة، بسلفة خزينة او بأي بدعة اخرى قد يستنبطها عبقري المالية اليوم أو غداً.
لكن أزمة الجامعة الوطنية باتت اكثر تعقيداً من ان تستطيع القرارات المرتجلة والتي تتخذ تحت ضغط الإضراب المطلبي وبقصد إنهاء الإضراب، من ان تحلها وتعيد الى الجامعة دورها المفتقد.
إن أزمة الجامعة هي هي أزمة الدولة التي تبدو كأنها قد شاخت وفقدت قدرتها على المبادرة وفقد أهلها القدرة على الدفاع عن مشروعها.
أزمة الجامعة اعمق بكثير من اسباب الإضراب.
أزمة الجامعة أن الوطن يفتقد الى حكم يحمي الدولة بتأمين مصالح شعبها الحيوية.
ومع الأسف فإن هذه الأزمة مفتوحة.. حتى إشعار آخر!