طلال سلمان

ازمة تحدي لمجلس نواب

صدّعت الازمة الاقتصادية الاجتماعية الحكومة، امس، وها هي الآن تدق ابواب المجلس النيابي وتفرض عليه أخطر تحد واجهه منذ قيامه قبل ثلاث سنوات.
ذلك ان الازمة كبيرة جدا، معقدة جدا، بمعطياتها الاصلية، لا ينفع معها التهويل بالقوة كما لا ينفع التهوين من شأن القوى التي نزلت بها الى الشارع، ومؤكد انها لا يمكن ان تخدر بحوار اخرس بين وزير غير مفوض وبين اتحاد عمالي غير مؤهل وغير مطالب بأن يكون القيادة السياسية وصاحب البرنامج الانقاذي الشامل للبلاد.
وعبر تجربة النزول الى الشارع انكشفت الحكومة وأصاب سمعة الحكم ضرر بالغ، حتى لو ظل الاتحاد العمالي اعجز من ان يفيد من ذلك التردي لتحقيق مطالبه.
لقد انكشف العجز، وتهاوت ادعاءات القدرة الخارقة، مما أبقى الازمة في الشارع، واذا كان العسكر قد حمى هيبة »الدولة«، فإن بنادقه لا تفيد شيئا في حماية او توكيد قدرة الحكومة على توفير حلول فعلية للمعضلة الاجتماعية.
الدور اليوم على مجلس النواب،
هل تستطيع هذه المؤسسة التي ولدت بعملية قيصرية وفي ظروف استثنائية جدا، والتي ما تزال تحمل وتعاني من تشوهات الولادة (خصوصا بعد التجربة البائسة في الانتخاب الفرعي في بيروت)… هل تستطيع ان تنجح حيث فشلت الحكومة التي كان مبرر قيامها، ثم اعادة صياغتها وتأمين الانسجام المطلق لرئيسها، قدرته الاستثنائية على معالجة الوضع الاقتصادي وإعادة الثقة الى اسطورة الازدهار اللبناني وتأمين الاستقرار كشرط لإعادة الاعمار واستيلاد الرخاء؟!
إنه أخطر امتحان لهوية النواب وصدقهم مع أنفسهم قبل ان يكون امتحانا للمجلس ككل…
فهذا المجلس يضم أكبر حشد عرفته المجالس النيابية جميعا من المتحدرين من منابت حزبية عقائدية كانت تعلي رايات الاشتراكية والعدالة الاجتماعية وضرورة انصاف المحرومين ورفع الغبن عن ابناء الاطراف والملحقات،
ثم انه يضم، الى جانب اولئك، اعلى نسبة من المتحدرين من اصول فلاحية وعمالية وصغار كسبة وحرفيين،
ولقد كان هذا التكوين عنصر قوة وحجة لها وجاهتها في الرد على من طعن بتمثيلية الكثير من النواب وبسلامة انتخاب بعضهم ممن »أُنجح« بالتزكية او ابتدعت له تقسيمات خاصة او اخترعت له مراكز لا يبررها العدد ولا »العدالة« الطائفية ولا مراعاة الحساسيات الجهوية.
إنه »مجلس النواب الفقراء« في مواجهة حكومة أغنى الاغنياء، ولو من حيث الشكل،
وإذا كان الغنى بين أسباب صمم الحكومة وعجزها عن تفهم مطالب الفقراء ومحدودي الدخل، فان ممثلي هؤلاء المحتشدين في مجلس 1992، وبينهم من يرفع راية »المستضعفين في الأرض« مطالبون بأن يدافعوا عن »ألقابهم« وعن »هويتهم« الطبقية كما عن دورهم السياسي في خدمة اهلهم، وهو دور شرعي بل ومصدر الشرعية الآن!
مع ملاحظة: ان المزايدة سهلة، وقد لجأ اليها البعض فلم يزد من إحراج الحكومة وان قلل من صدقيته هو.
فليس المطلب الآن اسقاط حكومة الحريري،
المطلب حماية السلم الاهلي، حماية النظام العام، حماية فكرة الدولة،
وعجز الحكومة قد يهز صورة الحكم، او »العهد«، ولكن عجز المجلس سيترك آثارا مدمرة على النظام نفسه وعلى الدولة قيد التأسيس التي لم تقم والتي تزيد الشكوك في امكان قيامها كل يوم.
لم ينزل كثير من الناس الى الشارع تلبية لدعوة الاتحاد العمالي العام، بالأمس،
لكن كثيرا من الناس يخرجون من ثقتهم بالحكم كل ساعة، وبعضهم يكاد يخرج عليه، وتتهاوى مع كل اجراء خاطئ او غير مدروس الصفة التمثيلية لهذا الحكم وهي مصدر شرعيته، أقلة من حيث المبدأ.
والمجلس مطالب بإنقاذ الجميع: انقاذ نفسه والحكومة والاتحاد العمالي العام، والنظام بذاته ومشروع الدولة الذي يشحب يوميا.
انها فرصة لهذا المجلس، الموسوم بالمقاطعة وبنقص الارادة السياسية فيه، كي يثبت اهليته في وضع برنامج وطني للانقاذ، انطلاقا من تنظيم حوار شامل حول المعضلة الاجتماعية بجوانبها الاقتصادية والسياسية جميعا.
فالحكومة عجزت عن ادارة حوار وطني يأتي الى طاولته الجميع، ليس بهدف الاحراج بالمناقصة او المزايدة، وانما بهدف استبقاء اللبنانيين في لبنان،
والمجلس مطالب بأن يلعب دوره، انطلاقا من حقه في الرقابة والمساءلة والمحاسبة، في المساعدة على وضع تلك الخطة المفتقدة التي تجعل الحياة ممكنة في هذا البلد »الغالي« بأكثر مما يحتمل اهله او قاصدوه او حتى الراغبون في الاستثمار فيه.
ان الحكومة تتهم المجلس، صراحة او ضمنا، بأنه عطل خطتها للاصلاح الاداري، فحمى بسلبيته الفاسدين والمفسدين، والناس يتهمون المجلس بأنه لم يحاسب الحكومة يوما على الهدر المتفاقم، بل يقولون انه قد شارك في بعض وجوهه حين ارتضى النواب ان تقتطع لهم مبالغ خاصة ينفقونها على محازبيهم واسترضاء مخاصميهم بالخدمات الرخيصة،
والحكومة تتهم المجلس بأنه عطل خطتها الانمائية الشاملة، وأفسد عليها مخططها للنهوض الاقتصادي، وحد من قدرتها على الحركة في مواجهة التحديات الاستثنائية التي تفرضها مخلفات الحرب الاهلية،
والناس يتهمون المجلس، اجمالا، بانه متواطئ عليهم مع الحكومة، بالصمت… ولا ينفع في تبديد الشك أن تمتلئ شاشات التلفزيون العديدة محطاته بوجوه السادة النواب وهم يشرحون (خارج المكان الصحيح) اسباب التردي والخلل في الاداء الحكومي ويوجهون الى رئيسها ووزرائها، اعضاء نادي الاغنياء، اشنع الاتهامات.
هل يملك المجلس القدرة والاهلية للامساك بهذا الملف الخطير؟!
هل يفيد من هذه الفرصة ليطوي صفحة الطعون وتشوهات الولادة والعجز عن انعاش الحياة السياسية، بل عن ايجادها، ويبدأ سنته الاخيرة بانجاز باهر قد يكون شرط حياة لاستمرار هذه »الجمهورية الثانية« التي ولدت بمعجزة وقد تذهب بها صاعقة؟!
هل يستطيع هذا المجلس ان يسترد لنفسه ما سلبته »الترويكا« من اختصاصات وصلاحيات فعطلت دوره او كادت؟!
هل يستطيع ان يستنقذ نفسه فلا ينتهي بنهاية العهد، بل يضع الاساس للعهد الجديد ويرسم له برنامجه فيكون قد وفر نقطة بداية للتصحيح وبالتالي لقيام »جمهورية السلم الاهلي«، التي لن تقوم الا بتوفير الكفاية والعدل لاهلها؟!
هل المهمة أثقل من ان تتحملها اكتاف هذه المؤسسة التي تبدو في احيان كثيرة وكأنها لا تتمكن او لا تمكَّن من القيام بدورها الطبيعي؟!
ان الازمة في الشارع، الآن،
ولا يستطيع العسكر ان يملأوا فراغ الشارع دائمù، والا التفتت عيونهم الى أمكنة اخرى.
وبديهي ان يكون اللبنانيون مع مؤسسات الديموقراطية وليس مع الحكم العسكري،
ولكن أين مؤسسات الديموقراطية، تدافع عن نفسها بتحقيق مطالب الناس اليومية، طالما تعذر عليها تحقيق مطامحهم؟!
والامر اكبر من الاتحاد العمالي العام، فلا يحملنّ احد هذه المؤسسة النقابية ما لا قِبَل لها به،
على ان الاتحاد يكبر بمقدار ما تتصاغر الحكومة،
والمهمة المطروحة على المجلس اليوم تتعدى الحكومة والاتحاد لتتصل بانقاذ النظام كله، واولا واخيرù المؤسسة الأم لأي نظام ديموقراطي برلماني: مجلس النواب.
… والعين دائمù على »تشرين الذي لناظره قريب«!

Exit mobile version