طلال سلمان

ازمة احتلالين كمصدر امل

رمضان كريم… إذا ما استطعنا تجاوز الشرنقة التي تحبسنا فيها، محلياً، الأزمة المتفاقمة على قمة السلطة وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، وما تنذر به من بؤس أخطر ما فيه غياب الحلول (أو اغتيالها!!) أقله في المدى المنظور، وغياب الرؤية والخطة للخروج من المأزق بخسائر يمكن احتمالها.
والوضع في لبنان يثبت، بالدليل الحسي، أن السلطة المنقسمة على ذاتها تقدر على التخريب بمثل ما يقدر »العدو«، وربما أكثر… فالعدو قد يجمع الناس، أو أكثريتهم، على مقاومته بالمقاطعة أو بالرفض أو حتى بالسلاح، أما انقسام السلطة فإنه يتسبب في انقسام الناس في بلد كلبنان بما يتجاوز السياسة وألاعيبها وأغراض منفذيها إلى ما هو أخطر بكثير: أي إلى ما يشابه الفتنة الأهلية.
وأخطر ما في انقسام السلطة، اليوم، أنه يكاد يكون خارج السياسة، بل هو قد يتسبب في تدمير ما يفترض أنه »الخط السياسي« الجامع بين أطرافها، والمبرّر وجودهم في مواقعهم الممتازة، وبالتالي فهو يدفع إلى تشققات في المجتمع تترعرع فيها أصناف »المكايدة« و»النكاية« والتخريب المتعمّد في المنشآت العامة وأرزاق الناس المرتبطة بأرضهم، وهذه كلها تأخذ إلى ما يشبه تدمير الذات لتدمير الخصم، فتكون النتيجة تدمير الدولة.. ومن ثم الوطن!
وإذا ما تركنا لبنان لعناية رؤسائه الكثر، والتفتنا إلى المنطقة من حولنا في ظل الظروف البائسة التي تعيشها، مفروضة عليها من داخلها (حكامها) أو من خارجها، فإن عيوننا ستلتقط بقاعا من النور التي لا يجوز إهمالها أو التقليل من أهميتها، خصوصا إذا ما استذكر العرب أنهم في حالة هزيمة شاملة كادت تُطوى آمالهم في الخروج منها.
ذلك أن أزمة »العدو« تصبح مصدرا للأمل، يعود معها الناس تدريجيا إلى مواجهة مشكلاتهم على صعوبتها بدلا من الاستسلام للهزيمة وكأنها القدر الذي لا مفر منه.
ومن واشنطن إلى تل أبيب تصدر تعبيرات صارخة في توصيف »الأزمة« التي يعيشها المنتصرون من قادة الاحتلال الأميركي للعراق، و»الأزمة« التي تحاصر المنتصرين من قادة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، من دون أن يعني هذا »الواقع« أن الفلسطينيين المقتولين على مدار الساعة والمنتزعة منهم أرضهم بجدار الفصل العنصري وبالمستعمرات وبالتجريف المتواصل وبالمصادرة »القانونية«، هم المنتصرون…
أو أن العراقيين هم المنتصرون وقد ضاع منهم وطنهم، أو يكاد، والذين نهبت خيرات بلادهم الغنية وما تزال تنهب في الحاضر ويتم التخطيط لنهبها مستقبلاً، بينما تجمع لهم »الصدقات« من »المانحين«… لكي لا يدفع المحتل دولاراً واحداً من تكاليف احتلاله واستمراره في أرض الرافدين!
***
ولقد غدا صعباً التمييز بين كلام المسؤولين والكتّاب الأميركيين حول وضع احتلالهم في العراق، وبين ما يصدر عن قادة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.. لكأن الطرفين يتقدمان بخطوات عسكرية، كل في دائرة حركته، نحو المأزق الذي لا يحلّه القتل، والمزيد من القتل، ونسف البيوت والمزيد من البيوت وتشريد أهلها وعمليات التهجير الجماعية للسكان.
وتبدو المنطقة وكأنها تعود إلى دائرة الحرب، من باب مقاومة الاحتلال الأميركي الإسرائيلي، وقد بات صعباً وضع الحدود الفاصلة بينهما.
ففي حين مزّق أرييل شارون خريطة الطريق، فإن واضعها صاحب الرؤيا الملهم، الرئيس الأميركي جورج بوش، قد »انسحب« تماماً مخلياً الطريق أمام الجرافات والدبابات والطائرات الإسرائيلية لتلغي »الأرض« التي كانت ستقوم عليها »الدولة« ولتحطم وحدة الشعب الذي وعده بالدولة، بل قدرته على مواصلة حياته اليومية.
وفي آخر الأخبار ما يفيد ان منظمات الاغاثة الدولية، وفي طليعتها الصليب الأحمر الدولي، تقترب نحو تصفية أنشطتها، لعجزها عن مواصلة عملها الإنساني بعدما توقفت المساعدات، من

جهة، وتعاظمت المخاطر على العاملين فيها بحيث لم يعودوا يتمكنون من القيام بمهماتهم (علماً بأن ثلاثمئة ألف فلسطيني كانوا يفيدون، بالملموس، من هذه الخدمات والمساعدات)..
بالمقابل فإن لهجة الاعتراض على الحرب سياسة، أعلى صوتاً الآن مما كانت في أي يوم، سواء في واشنطن التي حاصر البيت الأبيض فيها عشرات الألوف من المتظاهرين (الذين كانوا يُحقنون يومياً، على مدى ستة شهور بوهم الانتصار السريع والصاعق على الإرهاب… ويقدم لهم رأس العراق نموذجاً)، أو في تل أبيب التي تحفل صحفها ومنتدياتها السياسية بكلام هو خليط من اليأس والعجز عن انتصار السلاح على إرادة شعب يرفض ان »يختفي« فيزيل نفسه من طريق عدوه..
وتتوالى اعترافات كبار المسؤولين في واشنطن وتل أبيب عن »المفاجآت« التي أسقطت زهو الانتصار الذي تبدى في لحظة رخيصاً بحيث كاد يبرر المزيد من الحروب ضد أي دولة وكل دولة.
وعلى سبيل المثال، لا الحصر، فإن أصوات المعترضين على الغارة الإسرائيلية على معسكر فلسطيني مهجور داخل الأراضي السورية، كانت عالية وعنيفة جداً، وقد اتخذت طابع الإدانة للسياسة المغامرة التي يقودها الثنائي شارون موفاز، والتي ستزيد من حالة الانقسام في المجتمع الإسرائيلي حول الحرب كأسلوب حياة.
وبالتأكيد فإن حملة التضامن واسعة النطاق، دولياً، مع سوريا قد عززت الاعتراض الداخلي في إسرائيل، وأضافت إلى الشعور المتعاظم باليأس من الوصول إلى »سلام« ما أسباباً إضافية بينها توسيع جبهة الحرب بمبررات مفتعلة الغرض منها طمس الفشل في إنهاء المقاومة الفلسطينية التي لا تعجز برغم كل الأسوار عن الوصول إلى معسكرات الجيش الإسرائيلي نفسه ومباغتة جنوده وإيقاع خسائر فادحة في صفوفهم.
ثم إن الموقف السوري الذي اتسم بالحكمة، في اللحظة الأولى، لم يتوقف عند حد الشكوى إلى المرجعية الدولية مجلس الأمن بل هو استند إلى إقرار العالم بعدالة قضيته ليتقدم خطوة حاسمة في اتجاه التأكيد على أنه يملك أوراقاً كثيرة، وأنه لن يكتفي بالإدانة الدولية، بل هو جاهز للمواجهة، مع التذكير بأن أرضه محتلة، وبأن إسرائيل قد أقامت عشرات المستوطنات فيها، وبأن من حقه أن يرد على أي اعتداء بالعمل لتحرير أرضه في الجولان المحتل.
وبالتأكيد فإن مثل هذا الموقف يقوّي من عزيمة المناضلين الذين لا يتعبون في فلسطين ويعزز صمود الشعب الفلسطيني الأسير والموزع على مجموعة من معسكرات الاعتقال، ويعزّيه في خسائره الجسيمة التي يتكبدها يومياً في بيوته ومصادر رزقه وانعدام المساعدات التي كانت تسهم في رفع روحه المعنوية إضافة إلى حل مشكلات حياته اليومية.
أما العراق فإن صواريخ الأمس على فندق الرشيد وقصر المؤتمرات تتحدث عن نفسها، حتى ولو نجا منها أحد المهندسين الأساسيين للحرب على العراق، وكيل وزارة الدفاع الأميركية بول وولفويتز…
لقد أصيب »الاحتلال« بضربة في الصميم، مهما حاول هذا المسؤول الأميركي المتصهين أن يخفف من آثارها، في حين توفرت الشجاعة لدى وزير خارجية بلاده، كولن باول، لكي يقول: »لم نكن نتوقع أن تكون الهجمات على هذه الدرجة من القوة«.. وأن يظهر »استغرابه« من هذا التحول مستشهداً بأنه، وولفويتز قبله، قد حظيا باستقبال ممتاز ورحبت بهما تظاهرات المؤيدين من الأكراد في شمال العراق، قبل بضعة أسابيع.
* * *
إن المشهد العربي بائس.
لكن الأوضاع التي يواجهها الاحتلال الأميركي في العراق والاحتلال الإسرائيلي في فلسطين تفتح كوّة للأمل..
والتنازلات كما حفلات إعلان الاستسلام ليست حلا، وقد ثبت ذلك تاريخيا، كما ثبت مؤخرا في فلسطين نفسها. فكل الاتفاقات قد »فطست« تحت ركام البيوت المنسوفة، أو تحت أساس جدار الفصل العنصري.
وأزمة الاحتلال هي أحد مواقع الأمل، بشرط أن يكون ثمة بعد من يريد أن يقاوم، بما ملكت يمينه، مفيدا من أزمة عدوه الذي يحتل أرضه أو إرادته.
ورمضان كريم… وقد ثبتت »الرؤية« الآن لدى وولفويتز كما ثبتت من قبل وتثبت كل يوم لدى أرييل شارون!

Exit mobile version