طلال سلمان

ارهاب لبنان ضحية

لم يتخلّف أحد في لبنان، بمؤسسات الحكم فيه وهيئاته الدينية، إسلامية ومسيحية، والأحزاب والتنظيمات الشعبية وصولاً إلى الجمعيات الخيرية، عن إبداء التعاطف الصادق مع ضحايا »الإرهاب الدولي« الذي ضرب هذه المرة الولايات المتحدة الأميركية في مركز القلب منها، وعن إدانة الجهة أو الجهات التي خططت له ونفذته بدم بارد وبقسوة استفزت الناس جميعاً.
لم يكن ذلك نفاقاً أو مداراة للجبروت الأميركي بدافع الخوف من قوته الانتقامية غير المحدودة، ولا هو كان تنصلاً من شبهة القربى بالمخططين أو المنفذين.
كان لحرارة التعاطف وصدقه أسباب ذاتية، إضافة إلى أسبابه الموضوعية، فاللبنانيون طالما عانوا من وطأة الإرهاب الإسرائيلي، وهم ما زالوا يعانون من آثار الأرض المحروقة التي مارسها على امتداد ثلث قرن، والتي أودت بالآلاف منهم، بغير تمييز بين شيخ وصبي، وبين امرأة ومعاق، وبين ساع لرزقه وبين فلاح يروي أرضه بعرق جبينه… وبالتالي فإنهم، ومن موقع الضحايا، أظهروا حزنهم النبيل (قبل أن يظهر »النسر النبيل«) وتعاطفهم الصادق مع الذين أودت بهم التفجيرات الهائلة في يوم الثلاثاء الأميركي الأسود، بغير ذنب ارتكبوه، و»انتقاماً« من سياسة قد تكون خاطئة وقد تكون ظالمة، ولكن الذين دُفنوا تحت الأنقاض أو التهمتهم نيران الطائرات المفجَّرة لم يكونوا بأي حال المسؤولين عن تخطيطها أو عن تنفيذها.
أي أن بين مصادر التعاطف الشعور بأن انتقام مَن نفذوا هذه التفجيرات قد توجهوا إلى العنوان الخطأ، فضلاً عن الوعي بأن مثل هذه الأعمال الإرهابية لا تصحح سياسة ولا توقف ظلماً، بل هي قد تبرر للظالم ظلمه، وقد تغري صاحب السياسة الخاطئة بأقصى درجات التطرف، إذ تضفي عليه ملامح الضحية وتبرر له ردود فعله المتناسبة مع »كرامة« حجمه و»هيبة« دوره العالمي، طالما أن المعني هو الولايات المتحدة الأميركية.
وربما كان بين مصادر التعاطف التقدير بأن الألم الذي سيعصر قلوب الأميركيين حزناً على ضحاياهم قد يعكس نفسه تضامناً محدوداً أو تفهماً أفضل لقضايا السابقين من ضحايا الإرهاب، وقد يوفر فرصة للمراجعة والتمييز بين المدافعين بالمقاومة عن حقوقهم في أرضهم، ومقاومي الشر والطغيان والإرهاب بصدورهم العارية وبدمائهم وهي كل ما يملكون من أسلحة وبين الإرهابيين الذين قد يأخذهم جنون الدم أو الهوس الذاتي أو الرغبة في الانتقام من »السيد السابق«، والخروج على المبادئ جميعاً الدينية منها والسياسية إلى القتل الجماعي الذي يؤكد أهميتهم بقدر ما تتزايد أعداد مَن يسقطون فيه.
ولم يكن لبنان بحاجة إلى خبراء لكي يشهدوا بأنه ليس »طالبان«، وأن مقاومته الوطنية الإسلامية المجاهدة لم تكن يوماً في موقع »أسامة بن لادن«، خصوصاً وأن معظم أحزابه السياسية وفئاته الاجتماعية قد شاركت في التصدي للاحتلال الإسرائيلي، بدءاً بالماركسي اللينيني مروراً بالقومي العربي أو البعثي وصولاً إلى القومي السوري وإلى المنتظم في حركة »أمل«، وإن يكن »حزب الله« قد تحمّل الجهد الأكبر وقدم النموذج الأعلى في مواجهة القوة الغاشمة بالإيمان المعزز بالتقدم العلمي والتخطيط الدقيق..
مع ذلك فقد كافح لبنان، وبغير طلب، آفة التطرف الديني المسلح، ودفع ثمناً غالياً وهو يواجه مَن اشتبه في »أفغانيتهم« ممن ضلوا الطريق إلى العدو وتاهوا عن الهدف الصحيح لرصاصهم وأخذهم الهوس إلى الخطأ فقتلوا بدل أن يقاتلوا وأرهبوا أهلهم بدل أن يرهبوا عدوهم المعروف والمكشوف والذي كان الوصول إليه أسهل من الوصول إلى حيث اعتصموا في جرود الغلط.
ربما لهذا يتحسس لبنان، دولة وشعباً، من أي حديث يخلط قصداً بين المقاومة والإرهاب، فينقل بذلك الضحية إلى موقع الجاني والعكس بالعكس، فتبدو إسرائيل واحة التمدن ومنبع الحضارة والرقي والمشاعر الإنسانية المصفاة، حتى وهي تقتل الأطفال وتهدم البيوت على رؤوس سكانها، ويصير المدافع عن أرضه وأهله وحقه في الحياة إرهابياً خطيراً لا بد من استئصاله حماية للعالم الجديد من حمى »الأصولية الإسلامية«.
ثم ان لبنان ما زال يشهد بأم العين فظائع إرهاب الدولة التي ترتكبها إسرائيل ضد أشقائه وجيرانه الفلسطينيين، وبالتالي فإن جراحه لم تصبح من الذكريات، بل ان الدم الذي يهدر ظلماً وعدواناً قرب حدوده الجنوبية يحرمه من الشعور بالاطمئنان ويقلقه على مستقبله وعلى مصير أمته جميعاً.
لهذا كله فقد استهول اللبنانيون أن تحتل إسرائيل موقع »المدعي العام« في المحكمة الأميركية التي أصدرت أحكامها على المشبوهين في المسؤولية عن التفجيرات، من قبل أن تنعقد، متجاوزة أي قانون وأي عرف وأي أصول قضائية، بل وأي احترام لعقول الناس… المتعاطفين معها!
ذلك موضوع آخر في أي حال… لكن اللبنانيين، والعرب بأكثريتهم الساحقة، ودول العالم بغالبيتها العظمى، لا تقبل من الولايات المتحدة استغلال التعاطف مع ضحايا الإرهاب فيها، لتفرض تقسيماً متسرعاً ومتجنياً للناس: بين أميركيين لهم حق الانتقام المطلق من كل من يحددونه مسؤولاً أو مشاركاً، وبين »طالبانيين« أو »بن لادنيين« محكومين بالإعدام سلفاً ومن قبل أن يعرفوا بأي ذنب يُقتلون، ولأي بلد انتموا (من بلاد العرب والمسلمين!!) حصراً!
ولبنان ليس أفغانستان ولا تحكمه »طالبان« أو »منظمة القاعدة«،
و»حزب الله«، ومثله كل مَن شارك في شرف المقاومة وفي واجب الجهاد ضد إرهاب الدولة متمثلاً في الاحتلال الإسرائيلي، ليسوا »طالبان« وليسوا »بن لادنيين«، بل هم على الطرف النقيض: يعرفون أرضهم وحقوقهم فيها ويعرفون عدوهم وكيف يقاتلونه مواجهة ويهزمونه، ويعرفون الله معرفة اليقين، فلا يتوهون وهم يقصدونه بإيمانهم.
كذلك هو الحال مع مختلف المقاومين والمجاهدين في فلسطين المحتلة، لأي منظمة انتموا، فهم إنما يقاتلون الظلم ومن موقع الضحية،
وعنوان الخطأ الأميركي، في معالجة الإرهاب، يتمثل في الخلط بين الضحايا والجلادين، سواء في لبنان أو في فلسطين..
و»العدالة بلا حدود« تكاد تنعكس عبر هذا التبني للمنطق الإسرائيلي إلى »ظلم بلا حدود« خصوصاً بالنسبة إلى العرب، كل العرب، الخائفين منهم والمهرولين بالاعتذار عما لم يرتكبوه أو أولئك الذين يتعاطفون من موقع الضحية وليس خوفاً من العقاب الذي يعتمد قاعدة الكاوبوي الشهيرة: مطلوب حياً أو ميتاً!
وغير مقبول أن يكون عنوان هذه العدالة الأميركية تبرئة الإرهاب الإسرائيلي وإدانة المقاومة التي تحاول وقفه، وألا تكون قد أزالت الحدود فعلاً بين الجناة والضحايا فأعدمت المقتولين مرة ثانية!

Exit mobile version