طلال سلمان

ادارتان اميركيتان ومفاوضتان عربيتان

اذن فوزير الخارجية الاميركية، وارن كريستوفر، عائد بشخصه الى المنطقة خلال الاسبوعين المقبلين، لاصلاح ما أفسده الرجل المكلف بملف المفاوضات السورية الاسرائيلية دنيس روس.
لكأن الادارة الاميركية عمومù، والخارجية فيها خصوصù، ادارتان: الاولى اميركية متأثرة بالموقف الاسرائيلي ومتعاطفة معه ولكن من داخل المصالح العليا للولايات المتحدة، والثانية اسرائيلية متأثرة بالموقف الاميركي ومتعاطفة معه من داخل المصالح العليا لدولة اسرائيل!
لكن »الادارتين« حريصتان على عدم انقطاع وبالتالي على تفادي الجمود المطلق على المسار السوري الاسرائيلي، وهكذا وبعد فشل المنسق الشاطر في تمرير الخدعة القديمة كان لا بد من عودة المحامي المجرب والحكيم لكي يعيد وصل ما انقطع وتحديد مسافة ما بين الموقف الاميركي والموقف الاسرائيلي!
و»الخدعة القديمة« تمثلت في ادعاء روس انه »أما وقد تجاوزنا النقطة الاولى فلننتقل الى ما بعدها«..
ولم يكن ذلك صحيحù لا في الشكل ولا في المضمون،
ففي المحادثات التي اجراها رئيسا الاركان السوري، العماد حكمت الشهابي، والاسرائيلي امنون شاحاك، لم يتم اي اتفاق على موضوع محطات الانذار الارضية.
لقد استخدم شاحاك اسلوبù مهذبù غاية في النعومة، ربما للتعويض عن غطرسة سلفه باراك، في محاولة واضحة لكسب ثقة الشهابي بجديته، وحين شجر الخلاف حول محطات الانذار، لجأ شاحاك الى اللغة الملتبسة قائلاً: دعنا نتجاوز هذه النقطة!
و»التجاوز« لا يعني »الاتفاق«،
مع ذلك فقد بدأ دنيس روس مباحثاته في دمشق، حين وصلها قادمù من تل ابيب، وكأن الاتفاق حاصل فعلاً على محطات الانذار الارضية.
وكان طبيعيù ان يحسم امر الالتباس، وان تعيد سوريا التأكيد على موقفها الثابت: لا لمحطات الانذار، ولا ضرورة اصلاً لمثل هذه المحطات الارضية في ظل التقدم العلمي الهائل في مجال التصوير من الجو، خصوصù وان الاقمار الصناعية تغطي كل شبر في المنطقة، وبينها قمر اسرائيلي، ويمكن لهيئة محايدة ومتفق عليها، يفضل ان تكون تحت علم الامم المتحدة، ان توفر المعلومات الضرورية لكلا الطرفين وفي الوقت ذاته، بحيث لا تكون ثمة فرصة لاية مباغتة عسكرية…
***
اللعبة الخبيثة تتكرر فصولاً: محاولة الايحاء للفلسطينيين بأن السوريين على وشك التوقيع مع الاسرائيليين، بحيث يمكن الاتيان »بالثوار القدامى« الى منتجع اسرائيلي قرب حيفا، والتفاوض معهم وكأنهم »اسرى سلام«!!، بينما »المتطرفون« يهتفون في الخارج ضد انسحاب قوات الاحتلال من المدن الفلسطينية، وبينما وزير المال الاسرائيلي يفتش عمن يتحمل نفقات الانسحاب!
على ان المفاوض السوري يعرف هذا الفخ من قبل، وهو لم يقع فيه ابدù، وحاول تنبيه المفاوض الفلسطيني اليه، فكان أن اندفع اليه عرفات بقدميه، وغرق منذ ذلك اليوم في شرك التفاوض على المفاوضات، وهو ما يزال يفارض وكأن المفاوضات بذاتها هي جوهر القضية.
والمفاوض السوري يدرك ان اسحق رابين اكثر اطمئنانù الآن الى وضعه الداخلي، بعدما نجح »جماعته« من الاميركيين في خلخلة مركز القوة لخصمه السياسي زعيم الليكود بنيامين نتنياهو.
حساب رابين انتخابي، بالأساس،
وكذلك حساب كلينتون وادارته »الديموقراطية«،
وفي الوقت متسع، امام الطرفين، للمناورة.
لكن الوقت مفتوح، عند السوري، وهو يطلب من الطرفين »الثمن الشرعي« لصوته المرجح، اذا كان لا بد من استخدام مثل هذا السلاح لاستخلاص حقه في أرضه.
على هذا فلقد كان لا بد من ان تفشل المباحثات التفصيلية التي جاء من اجلها دنيس روس، وكان لا بد للمفاوض السوري من رفض ايفاد الخبراء العسكريين لاستئناف المفاوضات فطالما الخلاف قائم على المبدأ فكيف يمكن التوغل في التفاصيل.
* * *
»حرب المفاوضات« مفتوحة على مداها، ولا مواعيد ثابتة.
ويخطئ اللبنانيون كثيرا إذا هم راهنوا على تصريح لهذا المسؤول الاميركي (او الاسرائيلي) او ذاك، وأعدوا »روزنامة« السلام بما يتوافق مع مصالح المتعجلين منهم لجني أرباح السلام الاسرائيلي!
ان المفاوضات محكومة بأن تستمر، فلا مصلحة لأي من اطرافها الثلاثة في تحمل المسؤولية عن قطعها.
لكن استمرارها لا يحمل في طياته موعدا اخيرا لنهاياتها، ولا هو يحمل بالضرورة صورة مكتملة الملامح لتلك النهايات.
فعند المُطالب والساعي لاستعادة ارضه المحتلة لا فرق يذكر بين نهايات 1995 وبدايات 1996 او اواسط 1997 النتيجة الاخيرة هي المهمة، وهي التي تساهم في رسم صورة المستقبل.
وشتان ما بين المفاوضة قبل التوقيع والمفاوضة بعده.
الأسرى لا يفاوضون: يمتنعون تاركين المهمة لجيل آخر، او يوقعون محملين النتائج للأجيال الآتية.
حتى اليوم، لم يوقع العرب الا من موقع الأسير،
وسوريا تحاول ان تكسر هذه الحلقة الجهنمية،
وهي محاولة تستحق الجهد كله، خصوصا اذا واكبتها قراءة دقيقة للموقف الاميركي، وللتطورات الدولية،
وأن تفاوض على اجلاء المحتل هو امر مختلف جدا عن التفاوض على تحسين شروط الاحتلال! كذلك فالتفاوض على استنقاذ المواطنين الواقعين في الاسر هو امر مختلف جدا عن التسليم بهيمنة المحتل على البلاد كلها وشعبها بأسره، والوطن الكبير بكليته، بذريعة تخفيف المعاناة عن الأسرى الفعليين الواقعين في قبضة الاحتلال.

Exit mobile version