طلال سلمان

اختلفت علينا الدنيا يا حبيبي

حبيبي طلال
أكتب إليك من زمان غير زمانك. حتى كلمة «أكتب» قد تبدو غريبة عليك. أما الزمان فقد اختلف جداً، كنا نتعامل بالشهر والأسبوع واليوم، فصرت وأبناء جيلك تتعاملون باللحظة، بالثانية، بالدقيقة.. وكذلك فِعْل «الكتابة» فأنتم ترصفون الكلمات باللمسات… وبينما كنا ننتظر البريد لإرسال «المكاتيب» أو تلقيها، أو نصرخ عبر سماعات الهاتف ليسمعنا البعيد عنا، في المدينة، أو في الخارج، فأنتم تتواصلون عبر القارات على مدار الساعة وبلا صوت.
أكتب إليك وقد رحمتني أيامي فكان التطور هادئاً، ومع ذلك فقد زلزل ما نشأنا عليه. تصور أن جيراناً كثيرين في ضيعتنا كانوا ينتظرون فتى، في مثل عمري، ليقرأ لهم الرسائل أو الجريدة، أما الكتاب فلم يعرفوا منه إلا المقدس، وكانوا يكتفون بتقبيل غلافه ثم يضعونه على رؤوسهم للتبرّك.
أما اليوم فإن الجريدة في خطر، لأنها صارت متخلفة عن عصرها.. صارت الأخبار في الهواء، وصار يمكنك أن تمسك بالهواء وتستنطقه فينطق، ويمكن أن يزوّدك بالصور أيضاً… بل إنه قد يحفظ لك ما لم تقرأ في حينه فتستعيده متى شئت، وأينما كنت بلمسات من أصابعك التي كان القلم يحفر موقعاً له فيها.
لقد اختلفت عليّ الدنيا، يا حبيبي، وكثير منا يعيشون أغراباً فيها، يشعرون أنهم تأخروا عن الزمان، أو أن الزمان تقدم بالإنسان بأكثر مما يستطيعون أن يواكبوه.
كانت السينما في زماننا اكتشافاً هائلاً، أما التلفزيون فأعجوبة: كيف يستطيع هذا الصندوق السحري أن يستوعب العالم كله فيخبرك بما يجري في أقصى الأرض، بالصورة المتحركة والصوت معاً.. وكان من يمتلك الجهاز العجيب يتلقى زيارات تهنئة من جيرانه الذين يتحولون إلى ضيوف دائمين ليعرفوا وليشاهدوا مطربيهم ومطرباتهم المفضلات يشدون بأغنياتهم التي يحبون.
في مدرسة القرية كان التلامذة يحملون الحطب إليها لكي يشعلوا النار في المدفأة فتعينهم على البرد القارس.
أما المتعة الكاملة فأن يجيئوا إلى بيروت فيمشون فيها مبهورين بالمتاجر الأنيقة، وبالترامواي العجوز وهو يربط أحياء المدينة من أدناها إلى أقصاها… وقد تتاح لهم فرصة الذهاب إلى السينما لمشاهدة فيلم عن عنتر وعبلة، أو عن قيس وليلى، أو عن بطولات الكاوبوي الذي يقتل بطلقات مسدسه السريع منافساً له أمامه وآخر خلفه وثالثا عن يساره قبل أن يلتفت إلى الذي على يمينه فيراه قد رفع يديه مستسلماً.
كان الكتاب عزيزاً يا جدي، يتخطى قدرتنا على شرائه جديداً، لذا وعندما استقر بنا المقام في بيروت كنا نقصد «المعرض الدائم» أمام بناية اللعازارية، حيث تُعرض كتب مستعملة متعددة الموضوع، فيها الروايات التاريخية وفيها دواوين للشعراء الكبار تناوب على قراءتها العديد من القراء ثم باعها آخرُ مَن انتهت إليه إلى واحدة من «المكتبات الشعبية» التي تعرض ما لديها على الرصيف.. ويأتي هواة القراءة فيشترون بضعة كتب بثمن كتاب جديد واحد.
فأما السيارة فكانت عزيزة المنال، لا يقتني الجديد منها إلا الأغنياء، في حين يلجأ متوسطو الحال إلى شراء المستعمل منها.
كانت «البوسطة» هي وسيلة النقل الأساسية من القرى والبلدات في مختلف أنحاء لبنان إلى العاصمة ـ الأميرة بيروت.. تصب حمولاتها في بعض الشوارع الخلفية، وراء ساحة البرج التي كانت تضم المتاجر ودور السينما والمقاهي ومسرحَين شعبيَّين، ومن حولها تتوزع الأسواق «المتخصصة»: سوق سرسق للفقراء، وسوق أياس لمتوسطي الحال، وسوق الذهب للأغنياء، وسوق الخضار بالجملة لأصحاب المحلات والدكاكين في الضواحي، وسوق اللحامين… وعلى أطراف الأسواق تقوم الكنائس والمساجد التي تم تجديدها. وعند نواصي الشارع كان يقف باعة الكعك بسمسم ومعهم باعة أوراق اليانصيب وإلى جانبهم باعة الصحف وكل ينادي على ما لديه.. وأحياناً يكون صوت البائع رخيماً فيتوقف الجمهور لسماعه مجاناً.
كانت ساحة البرج تجمع اللبنانيين على اختلاف مناطقهم وطوائفهم فيتعارفون وقد يؤسسون لصداقات في ما بينهم.
كانت بيروت مدينتنا جميعاً. عاصمتنا جميعاً. نلتقي فيها فنتعارف وقد يربح واحدنا صديقاً أو أكثر نتيجة التلاقي بالمصادفة.
كنا شعباً واحداً، يا حبيبي، وطننا واحد وعاصمتنا واحدة لا شرقية فيها ولا غربية، اسمها جوهرة الشرق بيروت.
أتمنى أن يستطيع جيلك أيها الحبيب إعادة توحيد الوطن الصغير وشعبه الذي أنهكته حروب الطوائف والمذاهب وتجار السياسة.
ليكن السعد رفيق عمرك،
وليكن حب الناس ثروتك
وهنيئاً لك أن تعيش في عصر التقدم الإنساني المذهل.
جدك
طلال

Exit mobile version