طلال سلمان

اجتماع دمشق ارض كلمتها

كان لا بد من مبادرة ما، من تحرك ما، حتى لا يظل المسرح خالياً لجنون القوة الأميركية.
كان لا بد لأهل هذه المنطقة ذات التاريخ المضيء، وذات الموقع الاستراتيجي الخطير، وذات الإمكانات والطاقات والقدرات التي لا يمكن تجاهلها، من أن يرفعوا صوتهم اعتراضاً على تجاهلهم والتصرف بمصيرهم وكأنهم أعجز من أن يمنعوا ما تقرره هذه الإدارة الأميركية المهووسة بجنون القوة،
كان لا بد أن يتلاقى أهل هذه المنطقة المهددة بشعوبها وكياناتها السياسية، وأن يثبتوا حضورهم الفاعل، وأن يمنعوا الإدارة الأميركية من الاستمرار في إهانتهم بتجاهلهم أو بتفويض ذاتها حق التصرف بأقدارهم، فتقرر إزالة هذه الدولة أو تلك، تقسيم هذه الدولة أو تلك، تارة على أساس طائفي أو مذهبي وطوراً على أساس عرقي، ودائما في ما يناسب مشروع هيمنتها المطلقة على »الشرق الأوسط« جميعاً، بعربه وتركه وعجمه والقوميات الأخرى المندمجة فيه ماضياً وحاضراً ومصيراً، ودائماً بالاشتراك مع دولة العنصرية الصهيونية التي تواصل بقيادة السفاح أرييل شارون حرب الإبادة ضد شعب فلسطين العربية.
كان لا بد من مبادرة ما… وقد أتاحت الانتخابات الأخيرة في تركيا الفرصة لمجيء حكومة تؤكد انتسابها الى أرضها والى تاريخها وإلى أهلها في هذه المنطقة، بما فتح الباب على مصراعيه لتعاون عربي تركي على قاعدة ثابتة من المصالح المشتركة، ومن الإحساس بضرورة توحيد الموقف من الخطر الداهم ممثلاً بجنون القوة الأميركية الذي اختار العراق كهدف، يمكنه إذا ما نجح في استفراده أن يلتفت الى سائر دول المنطقة فيعمل فيها تمزيقاً واحتواءً وتدميراً بما يجعله المهيمن المطلق على كل الأرض العربية الإسلامية حتى آخر مئذنة في الصين، وآخر بئر نفط في »بلاد ما خلف النهر«!
وكان بديهياً أن تكون إيران، بكل تراثها في مواجهة تحرشات »الشيطان الأعظم« طرفاً في أي مبادرة أو تحرك لمنع هذا العدوان الجديد، الذي يتخذ من الادعاء بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل مجرد ذريعة لإعادة صياغة »الشرق الأوسط الجديد« بما يناسب مصالحه (ومعها أو من ضمنها المصالح الإسرائيلية) في الهيمنة على ثروات هذه المنطقة والتحكم بشعوبها فضلاً عن حكوماتها..
ولقد تكامل الجهد السوري مع مبادرة الحكومة التركية الجديدة التي تحاول العودة بتركيا إلى محيطها الطبيعي من دون أن تخسر تطلعها إلى الشراكة مع أوروبا، فكان القرار بعقد اجتماع سداسي، يضم سوريا وتركيا ومصر والسعودية والأردن وإيران، لمحاولة الوصول إلى موقف موحد يمنع هذا العدوان الأميركي الجديد على المنطقة، بتضخيم قدرات صدام حسين إلى مستوى خرافي بما يجعله »تهديدا لأمن العالم أجمع«!
إنها خطوة على الطريق الصحيح،
فمن البديهي أن ينتقل العربي (وهو الهدف المباشر لمشروع العدوان الأميركي) من موقع المذعور الذي يشله الرعب من مخاطر الغضب الأميركي، إلى موقع الدفاع المشروع عن النفس، والتضامن مع المهددين مثلهم من دول الجوار في سلامتهم الوطنية وفي حقهم في بناء مستقبل أفضل لا يتهدده الدمار بفعل الغضب الأميركي أو الرغبة في الانتقام من مجموعات إرهابية تجرأت على مهاجمة مركز القوة الكوني فأصابت اعتداده بنفسه في الصميم.
إنها خطوة على الطريق الصحيح، وكان لا بد من مبادر عربي فكانت سوريا صاحبة المبادرة، وهي قد تلاقت مع تركيا في توصيف »الحالة«، كما في القرار بضرورة المواجهة بموقف مشترك،
وهكذا تولت القيادة السورية الاتصال بالعواصم العربية المعنية، في حين كان رئيس الحكومة التركية يجول على هذه العواصم متحدثا إليها بلغة غير التي كانت تسمعها فترفضها من الحكومات التركية السابقة، فاستمعت إليه باهتمام واستبشار، وبات ممكنا بل وضروريا التلاقي على وسائل العمل طالما تم التلاقي على الهدف.
فالقاعدة أن الكل مستهدف بجنون القوة الأميركية، وليس العراق أو النظام الحاكم فيه فحسب،
والقاعدة أن أي تهديد لوحدة العراق سيجعل المنطقة برمتها تتشظى وتتناثر أعراقا وإثنيات وأديانا وطوائف ومذاهب، بحيث لا تبقى دولة فيه على حالها… فالعراق هو بالفعل لا بالتوصيف الإنشائي »ملخص مكثف للشرق الأوسط برمته«.
والقاعدة أن تغيير أي نظام قائم، وبغض النظر عن طبيعته بمعنى مدى قربه أو بعده عن الديموقراطية، بقوة الاحتلال الأجنبي ليس له اسم غير العدوان الاستعماري، وغير الفرض بالإكراه، وغير مصادرة حق الشعب في أن يقرر مصيره بإرادته الحرة، كائنا ما كان رأيه في حاكمه أو نظامه القائم.
إن تلاقي دول الجوار سينهي التفرد الأميركي الضاغط على التردد الأوروبي، والمستدرج بالرشوة الصمت الصيني، والفارض بالابتزاز هذا التعثر الواضح في الموقف الروسي…
ومع الوعي الكامل بأن دول الجوار الست هذه ليست واحدة موحدة في موقفها من صدام حسين ونظامه، أو في علاقاتها مع
الولايات المتحدة وإدارتها المصابة بجنون العظمة وغطرسة القوة، أو في نظرتها الى طبيعة التحالف الجهنمي القائم بين هذه الإدارة وبين حكومة السفاح الإسرائيلي أرييل شارون،
.. مع الوعي بذلك كله فإن هامش »المشترك«، من المصالح، بين هذه الدول الست يمكن ان يلعب دوراً مؤثراً على التفرد الأميركي، كما على التردد الأوروبي ومن ثم الصمت الصيني والتذبذب الروسي.
ان مثل هذه المبادرة لها قوة سياسية معنوية لا يستهان بها، وابسط نتائجها ان تنتزع لهذا »المحور« دوراً في القرار الأميركي الذي وان كان عنوانه العراق أو نظامه فإن الآثار المترتبة على جنون القوة فيه ستصيب بالضرر كل جيران العراق.
الخوف ليس علاجاً، وليس طريقاً إلى النجاة،
والمواجهة بالعقل، أي بالمصالح، ممكنة دائماً،
والأرض تحكم بداية وانتهاء،
ومن حق أهل الأرض ان يرفعوا صوتهم بالاعتراض على ما سيصيبهم بأفدح الضرر، حتى وان موّه الاحتلال نفسه بالادعاء انه إنما يحمل رسالة الديموقراطية وحقوق الإنسان.
انها مبادرة كانت بالأمس مطلباً صعباً، وهي اليوم ضرورة حيوية، وقد توفر غداً المخرج الذي يبحث عنه الجميع.
المهم ان يكون العرب فيها واحداً.
ودمشق مؤهلة لمثل هذا الدور، وللنجاح فيه.

Exit mobile version