طلال سلمان

اتفاق متفجر وتواقيع متسولين

إذاً، فكل ما أرادته واشنطن من »الاتفاق« هو »الصورة«، وقد حصلت عليها، وكل ما أرادته إسرائيل من »الاتفاق« هو »التوقيع الفلسطيني« وقد حصلت عليه،
أما الاتفاق بذاته، بصفحاته العديدة، بنصوصه الملتبسة والغامضة، بوعوده المرجأة، فقد ثبت أنه لم يكن من ضمن »المدعوين« الى احتفال واشنطن، ولا هم كانوا معنيين به فعليù إلا بوصفه فرصة لقاء مع »السيد« قد تنفع في زيادة المكافأة، أو في الاطمئنان إلى مصير »العرش« ومَن عليه.
و»الاتفاق« متفجر بطبيعته، وإن كان نجح التواطؤ بين ياسر عرفات وبين شمعون بيريز، في تأخير التوقيت إلى ما بعد الموعد المفروض (والمرغوب) في البيت الأبيض،
كل بند فيه، بالنص الملتبس، شحنة متفجرة: من الأمن إلى المياه، ومن سمات السيادة إلى حرية الانتقال، ومن آلاف المعتقلين إلى مسألة الانسحاب التي هُذِّبت فأطلق عليها تسمية »إعادة الانتشار«،
والحقيقة أنه نادرù ما احتشدت في »اتفاق سلام ما« كل هذه المفارقات والتناقضات والالتباسات التي تلغي مضمونه وتجعله غير ذي موضوع،
لكن الضرورات الانتخابية يمكنها أن تكتفي بالشكل، بالصورة وحشد الموقعين على اتفاق يعرفون جميعù أنه لم يولد فعليù بعد لكي يمكن الحديث عن قابليته للحياة،
هنا كانت ذروة التواطؤ على »المشروع الفلسطيني«، التي ما كان ممكنù بلوغها من دون التوقيع الفلسطيني… ولكن ما خوف الغريق من البلل؟!
ربما لهذا كان المواطن الفلسطيني في الداخل، بحدسه قبل معلوماته، يعيش لحظة حزن عميق، حتى بدا وهو يتابع المشهد المهيب في البيت الأبيض وكأنه يشيع مع أحلامه بعض ما كان يفترض أنه قد وضع يده عليه من »حقوقه المطلبية« أو النقابية البسيطة.
في واشنطن، كان المحتفلون بالتوقيع يظهرون من البهجة أكثر مما تحتمل مناسبة مثقلة بالتراث الدموي وصراع المصائر والمصالح والأديان فوق أرض التاريخ بالماضي والحاضر والمستقبل.
أما في ما تبقى من فلسطين، قبل الاتفاق، وتحديدù في مدينة الخليل التي أسقطها »المتفقون« في أيدي المستوطنين الاسرائيليين، فكانت تظاهرات الغضب ومظاهر الحداد والخيبة الخرساء أفصح تعبير عن شعور »فلسطينيي ما قبل الاتفاق« بالهزيمة الجديدة.
واتخذت المفارقة بُعدها الكاريكاتوري الكامل حين تبارى الخطباء من ذوي الألقاب الفخمة في التبشير بالثمار الشهية لهذا الاتفاق المفخخ بالتواطؤ: من التنمية والتقدم التكنولوجي إلى الازدهار الاقتصادي، ومن الاستقرار الأمني إلى الديموقراطية وحقوق الانسان!
كل تلك الوعود كانت أجمل من أن تكون حقيقة،
فلا مَن يطلقها قادر أو هو جاد في تنفيذها،
ولا مَن يسمعها قادر على تصديقها، ناهيك بأن يتلمس أثرها في حياته اليومية.
هو »سلام المتسولين«،
لكل توقيع ثمنه، والحساب »عربي«.
الحكاية تتكرّر فصولاً من »زيارة السادات« ثم كامب ديفيد إلى 28 أيلول الفلسطيني: التوقيع بالثمن، لكن الرشوة التي قد تسعد من ينالها لا تحقق شيئù من وعود السلام البهية.
كأنما كانت الحرب أقل تكلفة من هذا »السلام« الذي لا يأتي بغير الصدقات والديون غير القابلة التحصيل!
فقبل التوقيع، في طابا، وعندما هددت المصادرة الاسرائيلية لمدينة الخليل وحرمها الابراهيمي، بنسف المفاوضات وموعد »المهرجان الانتخابي« في واشنطن؛ جاء التهديد صريحù ومباشرù وبلسان دنيس روس بأن المساعدات المقرّرة لسلطة الشرطة في غزة أريحا ستتوقف، وقد تلغى إذا تسبّب »التشدد« بإلغاء هذا الاستثمار الانتخابي الموعود.
أما الملك حسين، الشاطر والمتنبّه والذي يفضل القبض سلفù، فقد نال مكافأته وهو في الطريق إلى واشنطن بإعلانها شطب بعض ديونه،
وأما مصر فيرتبط خبزها اليومي، وحتى اليوم، بالتوقيع والإصرار على التطبيع.
ولقد كانت مصر قبل التوقيع على شيء من الفقر وكثير من الكرامة التي وفرت لها دورù قياديù مجيدù لأمتها ولمعظم العالم الثالث ولكل الطامحين إلى التحرر في أربع رياح الأرض،
أما بعد التوقيع، فقد ذهبت الكرامة وألغي الدور وسقط الحق بالقيادة، في حين تفاقم الفقر حتى بات منهكù إلى درجة الإذلال.
فأي سلام يصنعه مثل هذا الاتفاق الذي يتناوب في التوقيع عليه متسولون لا يجد واحدهم في خزينة دولته مرتبات موظفيه، وفارضو خوة أو أتاوة، كالأميركي والإسرائيلي، يأخذون من الجميع عنوة، ثم يطلبون من الدول المانحة بعض الصدقات لاستبقاء هذه العروش وحمايتها من السقوط؟!
إنه سلام يحمل بذور موته في مضمونه المزور، مهما تكاثرت التواقيع على صفحاته العديدة.
إنها تواقيع على شاهدة القبر وليس على تأشيرة دخول إلى المستقبل!

Exit mobile version