طلال سلمان

اتفاق على فلسطين عرب

يعود بنيامين نتنياهو من منتجع »واي«، وبعد »المفاوضات« التي اطيلت لتبدو »صعبة«، وحفلت بتهديدات الانسحاب، للايحاء بأنها قد شهدت »تنازلات« اسرائيلية، وشارك فيها الرئيس الاميركي شخصيا ومعظم ادارته، من مجلس الأمن القومي الى الخارجية وصولا الى »السي.اي.ايه«، لتتخذ طابع »الاتفاق الدولي«، ولتمثل للطرف الفلسطيني »الحد الأقصى« الذي امكن الحصول عليه اليوم، او يمكن الحصول عليه في اي يوم…
يعود نتنياهو، وبغض النظر عن الاتفاق، نصه ومضامينه وملحقاته، بأغلى هدية عيد ميلاد تلقاها في حياته (اذ سبق عرفات الملك حسين واليهود الاميركيين وربما معظم الاسرائيليين بتهنئة »بيبي« هاتفيا ثم بإرسال الزهور إليه)… فهو قد نجح في تفتيت فلسطين كما لم يحصل من قبل، بما يسهل شطبها نهائيا كقضية عربية ودولية، بل وقبل ذلك كحقوق وطنية لشعبها في ارضه وفي مستقبله فوقها.
لن يعوض اي اتفاق، حتى لو حمل توقيع كلينتون على كل فقرة منه، ما ضاع، والأدهى ان احدا لن يستطيع ضمان التنفيذ، ولن يقدر من ثم على معاقبة المتلكئ او الناكل، خصوصا وان تنازل الطرف المواجه بلا قعر، ولا إمكان للجمه… وثمة إشارات الى ان عرفات قد تجاوز الراعي الاميركي فقبل ما كان يرفضه، ولعله في لحظات معينة قد فاوض من خلفه مستفيدا من خبرات »وكيل البيع المعتمد« محمود عباس.
لقد استدعى نتنياهو »يمينه« ارييل شارون ليكون ذريعته في التشدد، اذ ان مجرد ظهور سفاح صبرا وشاتيلا سيظهر رئيس حكومة التطرف الاسرائيلي »معتدلا«، بحيث يبدو القبول بما يطرحه »تسوية« او لقاء في منتصف الطريق،
اما عرفات فقد اصطحب »يمينه« ابو مازن ان جاز تصنيف هذا المفرط عقائديا، الذي بمجرد وجوده سيظهره متشددا، وسيكون عليه ان يتراجع او يتنازل باستمرار ليضمن »وحدة صفه« المتهالك اصلا، والذاهب وقد قبل سلفا ما لم يكن يجوز القبول به.
الكل كان حاضرا في »واي« ما عدا فلسطين.
ولقد تعاون الاميركيون والاسرائيليون وجماعة السلطة الفلسطينية على تغييب القضية تحت ركام من التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، والنسب المئوية التي لو جمعت كلها لما شكلت ارضا تستحق ان يرويها ابناؤها بدم الشهادة وقد بذلها المجاهدون الفلسطينيون رخيصة على امتداد سبعين سنة او يزيد!.
صارت الأرض شرائح مقطعة، اشبه بالعقارات المفرزة التي لا تشكل وحدة، بل يباع او يستخدم كل منها بمعزل عما جاوره،
لم يعد للأرض اسم. حتى تعبير الضفة الغربية سحب من التداول. فهي نتف من الضفة، مقطعة الاوصال، بلا هوية جامعة غير »الشرطة«!! صارت مدنا وقرى وطرقات ومحميات طبيعية ومستوطنات تتوسع على مدار الساعة فتطرد جوارها الذي كان فلسطينيا ثم صار أرضا مشاعاً.
ولم يعد »للناس« فيها هوية او اسم خارج ما هو اسرائيلي…
»فالسكان« خليط من البولونيين والاميركيين والروس والاحباش والاوكرانيين والتشيك واليمنيين والمغاربة والمجريين والرومانيين و… الفلسطينيين!
لكأن »السكان الاصليين« بعض »الهنود الحمر« في »العالم الجديد« الاسرائيلي، الآن،
لا فضل لفلسطيني ولا أفضلية على اي وافد آخر، لا في الأرض ولا في السلطة ولا في حقوق الانسان، بل لعل اولئك »الوافدين« هم اصحاب فضل اذ سمحوا ببقاء »عينات« منه او مجموعات بشرية، متباعدة، متناثرة، لا تواصل بينها، أرضياً، ولا رابطة بينها سياسياً غير »السلطة«، التي هي »شرطة« أساساً، والتي باتت فعلياً وقانونياً ووفق الاعراف الدولية جميعاً »حارس حدود« للاحتلال الاسرائيلي، ليس فقط على امتداد الكيان الاسرائيلي الرسمي، بل ايضا وللمستوطنات الاسرائيلية المزروعة والتي تتمدد باستمرار خارج »الكيان« التي لا يعرف احد حدوده تماماً، وان ظلت داخل اسرائيل الوعد!
لا دولة. لا كيان. لا أرض. لا شعب. لا هوية موحدة: فلسطينيون فقط، و»سلطة« مثلثة تحكمهم، بعدما انضمت المخابرات المركزية الاميركية رسمياً الى الاسرائيليين، واخذت لنفسها الحق في المداهمة والاعتقال واستجواب السجناء، اضافة الى محاسبة النوايا واحتجاز الضمائر وادانة المعتقدات، دينية كانت ام سياسية.
لا وجود لفلسطين. ثمة سلطة محلية يحكمها الاسرائيليون وتشاركها و»تضمنها« المخابرات المركزية الاميركية، وهي تمارس عملها في محو كل ما يذكر بأساس القضية.
فهناك »تفاهم« تمت بلورته قبل اسبوعين، بأن هذه المخابرات ستفحص ميدانيا كل ترتيب امني، عبر زيارات مفاجئة للسجون الفلسطينية، للتأكد من ان السلطة تحارب الارهاب فعلاً. كذلك فان الأميركيين سيشرفون على جمع السلاح وعلى النشاطات ضد البنية التحتية »لحماس«!
كل فلسطيني خارج السلطة »ارهابي« حتى تثبت براءته، إسرائيلياً وأميركياً.
و»البنية التحتية« تعبير مطاط، قد يقود إلى كل من يصنف إسلامياً وبالتالي ارهابياً، في أي مكان من العالم وليس بالضرورة داخل فلسطين،
ان الاصرار على إلغاء الملغى من الميثاق الوطني الفلسطيني، الذي بات نسياً منسيا، لا يعني غير التثبت من شطب فلسطين كقضية، وشعبها كصاحب حق تاريخي في أرضه، وبالتالي حقه في أن »يحررها« بكل الوسائل، بما في ذلك »الكفاح المسلح«.
من خلال شطب الكفاح الفلسطيني وإدانة اعتداءاته، كائنة ما كانت هويتها، يمكن اجتثاث أي منحى ثوري، قومياً كان أم وطنياً، إسلامياً كان أم علمانياً، معادياً لإسرائيل كقوة عادية، استعمارية استيطانية، أو لأية قوة احتلال أجنبي (وهنا التلاقي مع المخابرات الأميركية)، في منطقة معظم أرضها محتل الآن، مباشرة او بالعقوبات الدولية.
بعد هذا »الإتفاق« لا يفقد العرب »حقهم« في النضال من أجل فلسطين، فحسب، بل في مقاومة الاحتلال، أي احتلال، وكل احتلال.
ان تقطيع الاواصر بين »عرب الجوار« وبين فلسطين يعني إلغاء الهوية القومية لهذه الأرض العربية،
وهو لا ينهي فقط ما كان يسمى »العملية السلمية« لأنه يجعلها غير ذات موضوع، بل هو يحور بل ويزور طبيعة الصراع، فيصير الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري وللجنوب اللبناني مجرد منازعات أو خلافات على الحدود، أي على بضعة كيلومترات من الأرض، أي مشكلة أمنية بسيطة بين »دول متجاورة«، يحكم فيها توازن القوى وليس الحق التاريخي ناهيك بالصراع الذي ولّد اقامة إسرائيل على أرض بعض شعوب المنطقة واحتلالها لأراضٍ عربية أخرى خارج فلسطين.
انه إتفاق أميركي إسرائيلي مع سلطة عرفات على فلسطين وعلى العرب مجتمعين،
وهو ليس مجرد حلقة اضافية في مسلسل التنازلات، بل هو محاولة للتصفية النهائية،
ومع ذلك لا يبدو نتنياهو راضياً بانجازه التاريخي.. الجديد!

Exit mobile version