طلال سلمان

اتفاق بوش شارون بديلا من اتفاق سايكس بيكو

جاء كلام أرييل شارون أمام »مؤتمر هرتسليا«، أمس، في موعده »القدري« تماماً ليؤكد ما لم يعد بحاجة إلى إثبات: أنه ملتزم حقاً »خريطة الطريق« الأميركية التي تتجاوز فلسطين، وإن انطلقت منها، لتشمل المنطقة (التي كانت عربية!!) جميعاً، متجاوزة حتى ذلك الشعار الصهيوني الذي يحدد دولة إسرائيل من النيل إلى الفرات.
إننا أمام ما يمكن اختزاله أو بلورته أو تحديده ب»اتفاق بوش شارون«، بوصفه »البديل المعاصر« لاتفاق سايكس بيكو، الذي شاخ عبر التحولات والتطورات في القرن الماضي، واندثرت القوة الإمبراطورية لواضعيه، كما اندثرت أحلام الذين نادوا »بالثورة العربية الكبرى« مفترضين أنهم إنما سيخرجون بها من إسار الإمبراطورية العثمانية المنهارة إلى فجر الوحدة والحرية والتقدم، بعد دهور التخلف الطويلة.
من فلسطين وما بعدها، إلى العراق وما بعده، تتبدى الشراكة الكاملة بين حكومة أرييل شارون وإدارة جورج بوش، بكل ما بينهما من روابط عقائدية، في رسم الطريق إلى الخريطة الجديدة للمنطقة.
وما يجري ليس مجرد تخطيط على الورق، في دوائر استعمارية تقبع في العواصم البعيدة، بل هو يكاد يتحول الى وقائع مرسومة بالدم فوق الأرض العربية، من عند رفح المصرية إلى أعمق أعماق الجزيرة والخليج، خلف العراق.
إن قراءة متأنية لما حدث ويحدث في العراق، ولما قيل ويقال وأحياناً بلسان عربي حول »الفتنة« التي قد يتسبب بها اقتسام السلطة في بغداد المحتلة، يكاد يوحي بأن احتلال العراق ليس المرحلة الأخيرة، بل هو العنوان المباشر للشرق الأوسط الجديد الذي بشّر به جورج بوش، مباشرة بعد إسقاط نظام صدام حسين.
ولأن الأميركيين صريحون ومباشرون في التعبير عن نواياهم، بينما المسؤولون العرب يفضلون الغمز واللمز والهمس والإيماء إلى ما يقصدون، فقد بدأ بعض المخططين الأميركيين يكشفون عن التوجه الى تقسيم العراق مذهبياً وعرقياً إلى ثلاث دويلات، واحدة كردية في الشمال، وثانية سنية في الوسط، وثالثة شيعية في الجنوب.
وقد يكون هذا »المخطط الافتراضي« حتى الآن مجرد »احتمال« أو واحد من »البدائل« التي يحضرها الأميركيون لمواجهة مختلف الاحتمالات التي قد تواجههم »على الأرض«.
وقد يكون ما يتهامس به بعض المسؤولين العرب، وما بدأ »صغارهم« يصرحون به علناً حول »الأكثرية« و»الأقلية« في العراق، مذهبياً، مجرد تعبير عن خوفهم من ان تمتد إليهم يد التقسيم الأميركية (الإسرائيلية) باعتماد القاعدة نفسها.
لكن المؤكد ان ما يدبر للمنطقة، في غيبة مسؤوليها المشغولين بتأمين عروشهم، يتجاوز حدود فلسطين (الضائعة تماماً الآن والتي ضيّع شارون في خطابه أمس ما كان واضحاً من خريطة مستقبلها) وحدود العراق إلى ما خلفه من اقطار في هذه الدنيا التي كانت عربية والتي تبحث الآن عن هوية جديدة تناسب الاحتلال القائم ومخططاته المستقبلية.
المنطقة الآن أمام »اتفاق بوش شارون« الذي علينا ان نفترض انه يستهدف إعادة رسم حدود جديدة وهويات جديدة ووظائف جديدة للكيانات السياسية القائمة، والجاري العمل الآن لإسقاط »الهوية العربية« عنها، بوصفها »أثراً من الماضي«، بحيث تتحول »الكيانات« القائمة إلى مجموعة من المستعمرات أو المحميات الأميركية تتكأكأ في ضعفها وهزالها من حول »مركز« واحد هو »دولة إسرائيل« الجبارة.
والوقائع اليومية تحمل دلالات موجعة ليس فقط حول الحاضر بل حول المستقبل أساساً:
فها هو أرييل شارون يقرر مستقبل فلسطين، بشعبها وما تبقى من أرضها والسلطة المتهالكة فيها، من دون ان يستطيع العرب ان يحاولوا، مجرد محاولة، منعه من المضي في مخططه الذي يطال بالخطر كل »جيران« فلسطين، من مصر التي بالكاد يسمح لها بدور الوسيط لوقف اطلاق النار (من جانب الفلسطينيين) إلى سوريا التي يراد منعها من استضافة أي قيادي فلسطيني وإلا طوردت بتهمة ايواء الإرهابيين، إلى لبنان الذي يبلَّغ يومياً بلسان جهات دولية مؤثرة ان عليه ان يقبل بتوطين اللاجئين إليه من الفلسطينيين وإلا… أما المملكة الهاشمية فهي في صلب الخطة، ليست طارئة عليها ولا تبدو انها قد بوغتت بها، وهي تمضي بعد فراغها من تدجين الفلسطينيين فيها إلى التبشير (بلسان مسؤولين كبار فيها!!) بفتنة مدمرة في العراق تذهب بمستقبله كدولة واحدة لشعب واحد.
ان »بلدان الطوق« مطالبة بأن تتحول إلى »مدى حيوي« للدولة الإسرائيلية، أما أنظمتها فعليها مهمة حماية »دولة المركز« إسرائيل، ودائماً تحت المظلة الأميركية.
أما دول الجزيرة والخليج فحدودها آبار النفط، وعلى الكيانات السياسية القائمة
ان تخضع لمقتضيات استمرار تدفقه وأمن أنابيبه، فإن هي اقتضت تقسيم ما يعتبر كبيراً من كياناتها قسمت، وإن اقتضت المصلحة »إزالة« بعضها، او دمج بعضها بالبعض الآخر، ازيلت او دمجت بغير اعتراض: القرار للآبار وسلامة الانابيب وأمن المصافي ومعامل التكرير وطرق الناقلات.
* * *
ليست فلسطين وحدها المستهدفة، ومنذ زمن طويل، والتي تمت تجزئتها من قضية وطن ومصير شعب الى بعض الاراضي البلاصاحب وبعض اللاجئين البلامستقبل.
وليس العراق هو وحده المستهدف الآن، بخطر الفتنة بعد الاحتلال، ومن أجل التمكين لاستمراره طويلاً طويلاً… والفتنة قد تكون طريقاً الى التقسيم لإدامة الاحتلال الى ما شاء الله.
وإذا ما نجحت مثل هذه الخطة في العراق فإن الدور سيكون على ما جاوره من أقطار، شرقاً وجنوباً وربما أبعد مما يمكن التصور، في هذه اللحظة.
لقد »عاش« اتفاق سايكس بيكو، وعاش »المشرق العربي« في ظلاله الوارفة طوال ثمانين عاماً او يزيد قليلاً.
فهل مقدّر على هذه المنطقة التي كانت عربية ان تمزق، من جديد، لتعيش القرن الجديد، بلا هوية، وبلا دول، وبلا قرار، إلا ما يقرره لها »اتفاق بوش شارون«؟
ومن، في غياب أي مرجعية عربية جداً، يمكنه ان يوقف او يعطل او يمنع تنفيذ استهدافات مثل هذا »الاتفاق« الملغي للعرب، حاضراً ومستقبلاً؟!

Exit mobile version