طلال سلمان

اب 1990 اب 2003 هل توحد مخاوف انظمة مواقفها

هل يمكن اليوم، ومن على بُعد ثلاث عشرة سنة عجاف، المباشرة بحصر النتائج المفجعة لذلك الخطأ التاريخي الذي ارتكبه صدام حسين بإقدامه على غزو الكويت واحتلالها بالقوة المسلحة، تحت شعار »إعادة الفرع إلى الأصل« أو استعادة »القائمقامية« الغنية وإعادتها إلى »موقعها« في »محافظة البصرة« في جمهورية الدكتاتور العراقي الذي ثبت يقيناً أن ليس كمثله أحد بين الطغاة الذين عرفتهم البشرية عبر مسيرتها الطويلة؟!
لقد تسبّب ذلك الخطأ السياسي (القطري) القاتل بسلسلة من الكوارث »القومية« التي سيعيش العرب، كل العرب، في ظل تداعياتها المدمّرة، لدهر طويل، في مشرقهم أساساً، ومن ثم في أقطارهم كافة، ما بين موريتانيا في المغرب واليمن مروراً بالسودان بغير أن ننسى الصومال، فضلاً عما كان قائماً بالفعل أو بالأمل من روابط وأواصر تشدهم بعضاً إلى بعض تحت لافتة »المصير المشترك«، وفي الطليعة من تلك الروابط جامعة الدول العربية التي يدور أمينها العام بين عواصم القلق، لعله يذكّر (إن نفعت الذكرى)، ولعله يكتشف عبر »الخوف« ما يشكل مدخلاً إلى التلاقي مجدداً بين المهددين في وجود »دولهم« وليس فقط في مصير أنظمتهم. وعمرو موسى »ابن نظام« وليس داعية إلى الثورة، وليس من »المجاهدين« المدانين، اليوم، بالانتماء إلى »الإرهاب الدولي«.
والواقع أن النتائج السياسية المباشرة لذلك الغزو الصدامي الذي بات الآن أثراً بعد عين، تهون على خطورتها أمام التداعيات المنطقية للانهيار الشامل الذي أصاب »الأمة« بمختلف أقطارها، في ثقتها بنفسها وبعدالة قضاياها وبحقها في التقدم على طريق التكامل، انطلاقاً من المصالح المشتركة قبل الحديث عن أحلام الوحدة واستعادة أمجاد الماضي التليد.
لكأنما مع إسقاط استقلال الكويت، بقوة عسكرية تظل »غازية« و»قطرية« حتى لو كانت »عربية« وبشعار قومي مزوّر، قد سقطت »استقلالات« الدول العربية جميعاً، وكأنما كان إلغاء الكيان السياسي لتلك الإمارة إنذاراً بإلغاء الكيانات السياسية العربية جميعاً..
وها هي دنيا العرب تبدو اليوم، في مطلع آب 2003، وكأنها مجموعة من المحميات تديرها وتشرف على شؤونها وزارة المستعمرات في الأمبراطورية الأميركية.. الجديدة بالاشتراك مع الحليف الأوحد لها: إسرائيل.
… ومع واقع الاحتلال الأميركي للعراق، بالقوة العسكرية، وبغير مقاومة تقريباً، فإن معظم الأنظمة العربية تبدو أسيرة رعبها، برغم اظهار للولاء المطلق للسيد الجديد، بعدما اسقطت عنها الإدارة الأميركية مرتبة »الصديق«، وشككت في كفاءتها للحكم فضلاُ عن صدق ولائها.. لسيدها الجبار!
وبهذا تكون هذه الأنظمة قد اكملت ما باشره صدام حسين ثم قصر في إنجازه!
لقد تسبب صدام حسين في اسقاط »القومية العربية« كحركة سياسية كان يؤمل منها ان تشكل الإطار السياسي للروابط العملية، أي المصالح المشتركة، فضلاً عن العواطف والتمنيات، بين العرب المتناثرين في اقطار عديدة، تختلف فيها التجارب بنتائجها على الواقع السياسي، وإن استبقت الأنظمة بعض الشعارات الجامعة، أو بعض الروابط الرسمية المرشحة للتهاوي مع أي قرار جدي قد ترى فيه الأنظمة تهديداً لمصالح خاصتها، وبين هذه المصالح علاقاتها بالصديق أو الحليف الأخطر: الولايات المتحدة الأميركية، ومن بينها إسرائيل.
ولقد أفادت هذه الأنظمة من خطأ صدام حسين »القومي« تحت شعارات حزب البعث العربي الاشتراكي، للتنصل من »العروبة« كهوية جامعة، مدللة بخواء هذه الهوية التي لا تحمي من خطر الأخ الشقيق بينما قوة الردع الضامنة للكيان ومن ثم للنظام لا تتوفر إلا عند »الصديق« الأميركي، ومعه ضمناً حليفه الإسرائيلي.
اليوم يمكن الانتباه إلى ان الحماية الأجنبية لم توفر الأمن لنظام خائف، بل هي زادت بالتأكيد من مخاوف تلك الأنظمة التي يستشعر بعضها خطر اللحاق بصدام حسين بتهم بعضها اخطر مما اتهم به: فهذا الطاغية كان خطره محصوراً »بأخوته« العرب، أما الأنظمة الضعيفة فقد تسببت في ان يطال سيف الإرهاب الدولي (الذي نما في احضانها وبرعاية أميركية) عاصمة الامبراطورية الجديدة في قلبها (البنتاغون في واشنطن) وفي درّتها الفريدة، نيويورك.
بالمقابل فإن صدم حسين إنما احتل الكويت فحسب، أما قوات الاحتلال الأميركي فتنتشر الآن في معظم الاقطار العربية، وبالطلب.. وعلى حساب الأنظمة الخائفة من شعوبها، والخائفة من الاحتلال الصديق أيضا!
فمع انفكاك الإطار الجامع لهذه الكيانات العربية (نظريا) تهاوت أنظمتها واحدا بعد الآخر، مخلية المساحة ليس فقط لعودة الاحتلال الأجنبي بثوب »المحرر«، بل لما هو أخطر: إعادة النظر في هوية البلاد وتقسيم »شعوبها« إلى عناصرها الأولى، أي العرق والإثنية والدين والطائفة والمذهب.. فإذا الشعب ليس واحدا، والكيان بالتالي لا يرتكز إلى أساس جدي، ومن ثم يصبح الاحتلال هو الضامن الوحيد للسلامة العامة، وهو بوليصة التأمين ضد خطر الحرب الأهلية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الحديث الآن عن عروبة العراق صار بمثابة تهديد لكيانه السياسي، ودعوة عنصرية معادية لأقلياته بدءا بالكرد مرورا بالتركمان وانتهاء بالكلدان والأشوريين.
وفي بعض الدعوات المتطرفة ارتفعت أصوات تعتبر الحديث عن عروبة الكويت عدوانا على كيانها السياسي، كأنما صدام حسين هو الرمز الأمثل للعروبة.
بالمقابل فإن الحديث عن عروبة فلسطين يشكل عدوانا صريحا على إسرائيل لا تقوى على تحمل نتائجه السلطة الفلسطينية وبالذات حكومتها العباسية..
إن كل نظام »عربي« الآن مشغول بالدفاع عن نفسه، وهو من أجل استنقاذ رأسه مستعد لأن يضحي بالهوية السياسية وبأي التزام »عربي«، قد يجيء متعارضا مع مصالح الاحتلال الأميركي.. المجيد!
ولولا شيء من التحفظ لجهرت بعض الأنظمة بضرورة وضع جامعة الدول العربية تحت الوصاية الأميركية، لتصبح »جامعة« فعلا، و»عربية« فعلا، ولو اقتضى الأمر »تنسيب« أرييل شارون إليها.
ألم تعجز تلك الجامعة عن منع غزو الكويت مما تسبب في انشقاقها؟
ثم.. ألم تعجز هذه المؤسسة العتيقة، التي يمكن لبيان أن يفجّرها، عن منع احتلال العراق، مما تسبب في غيابها إلى حد يقارب الاندثار؟!غدا تلتقي، بعد غياب طويل ومفجع، لجنة المتابعة العربية، للبحث في »تطورات الأوضاع الراهنة«، وهي لا تملك تصورا مشتركا، ويكاد يتعذر عليها اتخاذ موقف مشترك يصلح قاعدة للقاء عربي على مستوى القمة (؟!) يناقش فيه الحكام العرب مصير كياناتهم، وربما أنظمتهم، ويحاولون الوصول إلى »قاعدة ما« للعمل من أجل مواجهة ما يتهددهم من مخاطر في عواصمهم..
ومع أن الاختلافات قد سبقت اللجنة إلى مبنى الجامعة فاحتلتها، يظل ممكناً الافتراض أن يؤدي »توحيد المخاوف« إلى »توحيد المواقف«.
وأول الشروط لمثل هذا الأمر أن تقر هذه الأنظمة أن ليس أحد بينها بمأمن من مخاطر التداعيات المنطقية للاحتلال الأميركي للعراق، واستكمال إسرائيل إعادة احتلالها للأراضي الفلسطينية، فضلاً عن احتلالها للقرار السياسي للسلطة الفلسطينية التي تخلى عنها معظم شركائها العرب في اتفاق أوسلو وفي الاتفاقات الأخرى التي أسقطت ذلك الاتفاق الملغز الذي تجاوزته خارطة الطريق الأميركية دافعة بشعب فلسطين إلى المجهول، وسط الضياع العربي الشامل.
إن هذه الأنظمة مهزومة بمجملها.
مع ذلك لا بد من التوجه إليها، إذ لا بديل منها، فضلاً عن مسؤولياتها في استنقاذ كياناتها وهوية هذه الكيانات، حماية لرأسها بالذات، قبل حماية شعوبها.
وشهر آب العربي طويل جداً، لكأنه دهر كامل!

Exit mobile version