طلال سلمان

ابعد من موتمر حوار لانقاذ لبنان بدولتة وشعبة

سيكون طيف الراحل الكبير غسان تويني أخطر المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني الذي سيستأنف جلساته، اليوم، في القصر الجمهوري… وإن بقي للرئيس ميشال سليمان شرف المبادرة إلى الدعوة إليه مجدداً ومحاصرة المؤتمرين بأسباب الخطر الداهم على الدولة والوطن لدفعهم إلى المشاركة في شرف إنقاذهما.
والحقيقة أن المهمة قد باتت أجلّ وأخطر من أن تنهض بها هذه المجموعة من محترفي السياسة بالمزايدة الآخذة إلى الفتنة أو المناقصة الآخذة إلى تحلل الدولة… وربما لهذا لا يتوقع «المواطن» أي إنجاز جدي من هذا المؤتمر، وإن قنع بأن تسهم «صورة» التلاقي في تخفيف الاحتقان الخطير الذي يتهدد البلاد في كيانها السياسي ويتهدد شعبها في وحدته التي لم تكن في أي يوم على هذا القدر من التهالك واحتمالات التفكك على قاعدة أن لكل طائفة أو مذهب «دولته» و«جيشه» وموازناته وقوى الدعم، عربياً ودولياً!
لقد أنهكت هذه الطبقة السياسية «الدولة» حتى كادت تذهب بها، وربما صار ضرورياً إعادة تأسيس الدولة… فالواقع المر يثبت أن الدولة قد هرمت، وأن «النظام» قد استهلك مؤسساتها عبر ابتداع الحلول التلفيقية للمشكلات البنيوية.
دولة سياسيوها، في الحكم كما في المعارضة، يرون في خلافاتهم وفي اختلافهم على البديهيات، استثماراً مجزياً… والكل يعلن ولاءه لاتفاق الطائف واتفاق الطائف صار في الماضي ومنه بفضل ممارساتهم الانتهازية المغلفة بمصلحة الطائفة أو المذهب.
دولة حكومتها الائتلافية حكومات متعارضة، موظفوها بلا رواتب، وجيشها بلا عتاد وبلا غطاء سياسي يمكنه من ضرب مشاريع الفتنة المتنقلة بين العاصمة وضواحيها والمناطق شمالاً وشرقاً، إداراتها تعيش مياومة بسلف على موازنة لمّا تقر، وإداراتها الأمنية تتناكف وتكاد عناصرها تتواجه بالسلاح لأسباب طوائفية.
أليس من حق «الرعايا» أن يتساءلوا: لماذا لم ينجح هؤلاء المتلاقون من حول طاولة الحوار (وإن غاب بعضهم لأسباب المعروف منها مجهول)، في التقارب إلى حد الاشتراك في صياغة مشروع سياسي يحمي وحدة البلاد بشعبها ودولتها، أو حتى على حكومة اتحاد وطني؟!… وإذا كان هؤلاء «القادة الأفذاذ» لم يتفقوا جدياً على الحد الأدنى من قبل، فهل تراهم مؤهلين لصياغة عقد وطني يصلح أساساً لدولة قادرة، وعصرية، بنظام ديموقراطي، كالتي دعا إليها السيد حسن نصرالله؟!
«فالرعايا» من اللبنانيين هم اليوم أكثر طائفية بل ومذهبية منهم في أي يوم من تاريخهم الحافل بالحروب الأهلية ـ العربية ـ الدولية. وللنظام الطائفي وظيفة تتناقض مع الوحدة الوطنية… وحاصل جمع الحصص الطوائفية لا يقيم حكماً عادلاً ولا يشكل الضمانة المطلوبة لدولة المواطنين.
اختفى العدو الإسرائيلي تماماً من الخطاب السياسي، مع أن طيرانه الحربي يخرق سيادتنا ووحدة موقفنا وعزتنا الوطنية مرات ومرات في اليوم الواحد… وسقطت قضية فلسطين سهواً فلم تعد ترد في خطابات السياسيين إلا عبر الإشارة إلى «السلاح في المخيمات».
وبديهي الاعتراف أن لوثة الطائفية والمذهبية قد ضربت المنطقة بكاملها، الجزيرة العربية والخليج، والمشرق العربي جميعاً من العراق إلى لبنان مروراً بسوريا الذاهبة إلى مستقبل مخيف أهون التوقعات حياله الحرب الأهلية.
لقد بات اتفاق الطائف خلف لبنان الأمر الواقع اليوم: تعاظمت مواضيع الخلاف وتوالدت التفاصيل التي تأخذ إلى الافتراق والاحتراب وإعادة النظر في البديهيات… فالنظام الطوائفي تقسيمي بطبيعته. إذا كان المسؤولون جميعاً، من رئيس الدولة إلى العمال المياومين، يختارون بطوائفهم فكيف نطالب النظام بأن يكون مجسداً للوحدة الوطنية.
في مؤتمر الطائف تمّ إخضاع الدولة، مرة أخرى، للنظام الطوائفي. تمّ التعديل في الحصص. فثبت النظام وتهاوت الدولة. وها نحن نكاد لا نجد لها أثراً.
إن الأزمة التي نكاد نختنق في أتونها أعمق من أن تحلها لقاءات مهذبة أو صاخبة بين مختلفين، لا سيما أن بعض الخلافات قد تجاوز كل الخطوط الحمر للوطن والدولة والسيادة وركائز الوحدة الوطنية. إن أبناءه يتخرجون من المدارس ثم الجامعات ليواجهوا أحد خطرين: الهرب للنجاة بالنفس أو العيش في ظلال الخوف من الحرب الأهلية. إن كل مؤسسات التعليم الوطني قد عطلت أو ضربت في قدرتها على أداء مهامها.
… وإذا كانت الحرب الأهلية الأولى، والتي تمدّدت مراحلها على مساحة خمسة عشر عاماً، قد استدعت أن تشارك «الدول» في مؤتمرات الحوار الوطني في جنيف ولوزان وصولاً إلى الطائف (وأخيراً في الدوحة!)، فمن المكابرة أن ننكر الآن أننا على حافة الحرب الأهلية الثانية ـ الثالثة ـ الرابعة، والتي ستكون أعظم تدميراً للبلاد بدولتها وشعبها… خصوصاً إذا ما تنبهنا إلى التداعيات الحتمية لخطورة تفجر سوريا بالحرب الأهلية وربما العراق التي صارت وحدته أقرب إلى الحلم.
أليس مما يستوقف أي «مراقب» أننا نتقدم إلى الخلف بدليل أن «الناخب» لا يعرف على قاعدة أي قانون انتخابي سيختار «نوابه»، وأن حروباً ذات عناوين طائفية ومذهبية صريحة قد نشبت فعلاً حتى لا يجيء القانون الجديد للانتخابات مؤكداً لوحدة الشعب، ومعاصراً بمعنى احترامه لحق الرأي، بما يمنع الاختلاف السياسي من التحول إلى حرب أهلية مدمرة. لقد أعدنا من قبل إلى قانون الستين، فإلى أين سيعيدنا القانون الجديد الذي يعمل على تفصيله على مقاسهم أقطاب اللعبة السياسية الأفذاذ في استثمار الطائفية؟
إن اللبنانيين بحاجة إلى وقفة جادة أمام حاضرهم ومستقبلهم. أمام طبيعة نظامهم والدولة التي تجسده. أمام حقوقهم في أن يكونوا مواطنين لا رعايا.
إن القيادات السياسية المنقسمة إلى معسكرين متواجهين لن تستطيع التخفف من أعباء الخصومة التي تشكل قاعدة نفوذها السياسي… ثم أنها لا تمثل مجموع الشعب اللبناني بطموحاته إلى حاضر لا تتهدده الحرب الأهلية ومستقبل له دولته فيه بديلاً من الدويلات المقتتلة إلى يوم الدين، بينما العدو الإسرائيلي يمسك بقرار العرب جميعاً، أقله في المشرق المهدد بالتقسيم كانتونات أو أرخبيلاً من الجزر على قاعدة طائفية أو مذهبية.
إنها لحظة لقرار في مستوى خطورة المرحلة التي تعيشها المنطقة العربية عموماً، ولبنان منها وفيها، وإن كانت «خصوصيته» مهددة بأن تتحول من امتياز إلى مصدر إضافي لمخاطر داهمة يمكن ملاحظتها بالعين المجردة إذا ما أجلنا البصر بين التخم السوري النازف والتخم الجنوبي حيث يترصدنا العدو الإسرائيلي الذي طالما عمل لتغذية مشاريع التقسيم في لبنان الذي انتصر على احتلاله أكثر من مرة خلال العقود الثلاثة الماضية.
إن الطبقة السياسية أمام الامتحان مرة أخرى.
ومع أن الرعايا اللبنانيين لا يعلقون آمالاً عريضة على مؤتمر الحوار الذي سينعقد بغياب بعض أركانه اليوم، لأسباب غير مقنعة، إلا أنهم يتمنون ألا يستولد لهم مخاطر إضافية على وحدتهم وعلى ما تبقى من دولتهم.
ولنأمل أن يتخففوا من أغراضهم ومصالحهم الضيقة، وأن يواجهوا المخاطر الداهمة التي تتهدد لبنان في دولته وشعبه في وحدته، وأن يبادروا إلى مناقشة الاقتراح العملي بتحويل طاولة الحوار إلى مؤتمر تأسيسي للبنان الخارج من الحرب الأهلية وليس الذاهب إليها… بقدميه.

Exit mobile version