طلال سلمان

ابعد من مهرجانات

من الطبيعي أن تلبي كثرة من اللبنانيين النداء للمشاركة في إحياء الذكرى الثانية لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري… ولولا أن الدعوة اتخذت طابعاً حزبياً في ظل انقسام واسع تحت عناوين خلاف سياسي عميق، لكانت المشاركة أكثف بما لا يقاس.
ذلك أن رفيق الحريري الذي حظي في حياته بتأييد شعبي عارم، قد غدا مع استشهاده رمزاً وطنياً كبيراً، ولسوف يسكن التاريخ السياسي للبنان كبطل وطني، فضلاً عن أن ذاكرة اللبنانيين ستحتفظ له بموقع مميز، لأن السياسي في شخصه لم يحجب إنجازاته الخيرة والعديدة على المستوى الاجتماعي والتربوي والعمراني.
ثم إن الناس إجمالاً حساسون تجاه الظلم متى لحق بالأفراد، فكيف إذا لحق بقادة وسياسيين كبار قد يختلف الناس مع نهجهم وقد يعارضونهم فيعطون أصواتهم لمنافسيهم، لكنهم بالتأكيد يرفضون الاغتيال، بالمبدأ، ويرون فيه جريمة تتجاوز أشخاص المستهدفين لتصيب المواطنين جميعاً، والوطن وحلم الدولة، كما في قضية رفيق الحريري.
ربما لهذا لم يعد لأرقام من يحتشدون في هذه الذكرى أو تلك، في هذا المهرجان أو ذاك إلا دلالة واحدة هي التأكيد على عمق الانقسام والتباعد بين اللبنانيين، وإلا على اتساع شقة الخلاف في نظرتهم إلى السلطة بما يهدد العلاقات في ما بينهم كشركاء في الوطن الذي يبدو الآن معلقاً على صليب التعارض الذي ينذر بالتحوّل إلى فتنة.
سلفاً يمكن تقدير أرقام المشاركين في هذا المهرجان أو ذاك… فلقد باتت لهذه المهرجانات آلياتها وأجهزتها والإمكانات اللازمة لتأمين نجاحها في حشد يتجاوز الحشود الأخرى أو الحشود السابقة..
على أن التفاصيل المحلية في لبنان باتت قضايا دولية ينعقد من أجلها مجلس الأمن الدولي، فإن تعذر عقده صدر عنه بيان رئاسي ، ويتزاحم رؤساء الدول الكبرى على التعليق الفوري باستنكار ما يتوجب استنكاره ليخلصوا إلى تكرار تأييدهم وإعادة التأكيد على دعم حكومته الشرعية والدستورية والمجسدة للديموقراطية. لم يعد في البلد البلا داخل أية مسألة داخلية. ولم يعد للدولة قيد التأسيس أي حضور جدي… بل صارت أشبه بوكالة من غير بواب.
أما السفراء الأجانب، كبيرهم بالذات ومعه العديد من المعتمدين لدى الشرعية الأخرى، فقد باتوا ينافسون نجوم الشاشات، محلية
وفضائية (وبالألوان) في التعليق على الأحداث، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية، قضائية أم أمنية، اجتماعية أم تربوية، بما يؤكد مرة أخرى أن هذا الانقسام في البلاد ليس داخلياً بالمطلق، بل له أبعاد أخرى هم أصحاب القرار فيها، سواء تبدّوا في ثوب الناصحين أم المحرّضين، وربما.. القضاة!
وبرغم المخاوف الأمنية التي اجتاحت اللبنانيين، مؤخراً، فألزمتهم بيوتهم أو هي حدّدت حركتهم في أضيق نطاق، فإن أصحاب السعادة السفراء، وكبيرهم بالذات، يجولون يومياً على العديد من القيادات الرسمية والمراجع الدينية أو الوجاهات الشعبية، يكرزون عليهم النصائح ، وفي بعض الأحيان يتخذ النصح نبرة غير مستحبة، وقد تتجاوز اعتبارات الكرامة الشخصية فضلاً عن الاعتزاز بالانتماء الوطني.
لكن مخاوف اللبنانيين قد تعاظمت بالتأكيد بعد التفجيرين المروعين اللذين وقعا، أمس الأول، على الطريق بين بتغرين بكفيا في المتن الشمالي وبيروت، إذ أن هذه الجريمة الشنيعة أسقطت حاجز الأمان النفسي الذي كان يستشعره المواطن العادي، بأنه بذاته ليس هدفاً للاغتيال الذي يوجّه، بقرار سياسي واضح، إلى أعداء أو خصوم سياسيين يفترض فيهم أنهم يعطلون مشروعه.
إن جريمة الأوتوبيسين كانت موجهة، بالقصد، ضد المواطنين الطبيعيين الذين يسعون مع الصباح إلى رزقهم أو إلى وظائفهم أو إلى جامعاتهم ومدارسهم، مفترضين أن المعركة تدور بين الكبار وأنهم يحتمون بانعدام دورهم بما يضمن لهم السلامة.
بهذا المعنى فهي جريمة تستهدف كل مواطن، رجلاً كان أم امرأة، شاباً كان أم طفلاً، وبمعزل عن ميوله أو اتجاهاته أو ولاءاته السياسية.
إذن فهي محاولة لاغتيال فكرة الوطن ودولته الضامنة والحامية.
… وما أسهل التلاقي بين المتدخل الذي يتجاوز الأصول، ليزيد من الانقسام والتباعد بين اللبنانيين، وبين المخطط لزرع الفتنة وبث الرعب منها ليسهل عليه استثمار النتائج.
أما خطب التهييج والإثارة والتعبئة والتحريض، فليس فيها أي تكريم لمن يستحق التكريم، وليس فيها ما يطمئن المواطن الذي يقتل مع صباح السعي إلى الرزق أو إلى العلم، إلى مستقبله.
.. ويظل الحل السياسي للمشكلات العالقة بين الأطراف والقوى المختلفة هو مصدر الأمان والاطمئنان..
… وهو هو المدخل إلى حماية ذكرى رفيق الحريري وإنجازاته الكثيرة.

Exit mobile version