طلال سلمان

ابعد من »حروب خميس« لبنانية اعادة نظر اميركية في كيانات انتداب

أما وأن »حرب الخلوي« في بيروت مفتوحة وتزداد حدة وتعقيدا كل ساعة بحيث تكاد تستعصي على الوساطات والشفاعات واقتراحات الحلول، بعدما أعطى البعد الرئاسي للصراع شعار »يا حامل.. يا محمول« على وزن »يا قاتل.. يا مقتول«!
.. وأما وان الوعود بحلول جدية وسريعة للأزمة الاقتصادية المتفاقمة بحيث تأكل الكثير من رزق اللبنانيين وتضيّق أمامهم باب الأمل بالمستقبل في حين توسع أبواب هجرتهم الى أي مكان، »صحرا إن كان«، خصوصا وان »باريس 2« قد سقط في الشبكة العنكبوتية للخلافات الرئاسية فباتت طريقه مزروعة بالألغام..
.. وأما وأن أخبار فلسطين باتت من الشؤون الداخلية الإسرائيلية لا يجوز لأي مسؤول عربي مناقشتها إلا في واشنطن، وانطلاقا من ضرورة تأمين السلامة والازدهار الاقتصادي للكيان الإسرائيلي في الحاضر والمستقبل، وفي ضوء ذلك يمكن الحديث عن المطالب النقابية للرهائن الفلسطينيين في الأرض المحتلة، بعدما يحلقون ذقونهم وينظفون عقولهم من نزعاتهم الانتحارية ويطهرون دينهم من »عنصريته« التي تبرر »الإرهاب« تحت مسمّى »الجهاد«.
.. وأما وان النقاش العلني الذي تديره الإدارة الأميركية حول ضرب العراق قد تجاوز »الموعد« الى تحديد معالم الكيان الهجين المراد استيلاده من الضربة »المقررة«، وكم للعرب منه، سنّة وشيعة، وكم للأكراد، وكم للتركمان، وربما للكلدان والحثيين الخ..
… فلا بد من استئذان المسؤولين الكبار، في بيروت وسائر العواصم العربية، لطرح سؤال جدي من خارج جدول أعمالهم اليومي، حول مدى متابعتهم لما يدبر لكياناتهم السياسية التي يتصارعون على الحكم وتراتبية مواقعهم فيها، بينما »دولهم« ذاتها مهددة بالانفراط انقساما أو تقسيما وفصلا أو انفصالا، وبالاستفتاء الشعبي وانطلاقا من حق تقرير المصير (الممنوع على الفلسطينيين) ترسيخا للديموقراطية وسائر القيم التي ابتدعها النظام العالمي الجديد، كما يدل »اتفاق نيروبي« بين حكومة الخرطوم و»الحركة الشعبية لتحرير السودان«..
من السودان إلى العراق، ومن فلسطين الى الجزائر، ومن لبنان الى قلب الجزيرة العربية (فضلاً عما جرى للصومال أو مع أريتريا) تتبدى ملامح خرائط جديدة لتقسيم جديد للكيانات السياسية القائمة، مرة على أساس »عرقي«، ومرة على أساس »ديني« أو ربما على أساس »طائفي« أو حتى »قبلي« أين منه ما جرى لهذا »الوطن الكبير« الذي لم يعرف الوحدة السياسية في تاريخه الحديث مع الحرب العالمية الأولى واندثار السلطنة العثمانية، من تقسيمات وانتدابات واحتلالات ذهبت بآماله في التحرر والوحدة، وفرضت عليه أنماطاً من التقسيم شطرت العائلة الواحدة شطرين وبعثرت أحلامه السياسية أيدي سبأ وحولتها الى كيانات مقتتلة أو متصدعة ومهددة دائما بالحرب الأهلية..
… بينما كان المشروع الإسرائيلي ينتقل من الأفكار والخطط الى الأرض ليقيم »الدولة« التي ستغدو الأقوى والأمنع والأقدر على وراثة الاستعمار القديم، والمتحكمة بمصائر »جيرانها« الذين لن يأمنوا هيمنتها حتى لو صالحوها أو استسلموا لها بغير قيد أو شرط.
* * *
ليس أكيداً أن المسؤولين العرب قد أعطوا »مشروع« الاتفاق السياسي بين الحكم المركزي في الخرطوم و»الحركة الشعبية لتحرير السودان«، ما يستحق من الاهتمام الجدي ومن التبصر في ما يطرحه من تحديات جديدة، ليس على السودانيين وحدهم في الشمال والجنوب بل العرب في مختلف أقطارهم، انطلاقا من مصر وانتهاءً بمصر مرورا بمعظم المشرق وبعض المغرب العربي.
وإذا كان التحرج من إغضاب »الصديق الأميركي« قد منع القاهرة الرسمية من إعلان اعتراضها الجدي على »بروتوكول مكاكوس« الذي توصلت إليه حكومة البشير مع جون قرنق الذي ظل متهما بالانفصالية حتى الأمس القريب فإن أي متابع يعرف مدى المخاطر التي يشكلها تفتيت السودان، ولو كاحتمال، على الأمن الوطني المصري وعلى مكانة مصر ودورها العربي والأفريقي، بل وربما على سلامة كيانها السياسي.
ربما لهذا انتهى لقاء مبارك القذافي، في ظلال الذكرى الخمسين لثورة جمال عبد الناصر (23 تموز يوليو 1952) بغمغمة تعبر عن الشعور بشيء من المهانة، كون الأميركيين قد استبعدوا الدولتين الجارتين والمعنيتين واللتين بذلتا جهودا دؤوبة على امتداد العشرين سنة الأخيرة، لابتداع صيغ تثبت وحدة السودان ككيان سياسي مع الاعتراف بحقوق الأقليات المتعددة فيه، دينا أو لغة أو عرقا، بأن تحتفظ بشخصيتها في إطار الدولة الواحدة الموحدة.
ولم يكن مبالِغا ذلك المسؤول السوداني الذي وصف »بروتوكول مكاكوس« بأنه مثل »أوسلو الفلسطينية«، أي أنه »اتفاق إذعان« سلّم به الطرف الأضعف سياسيا (وعسكريا) بأمل أن يستطيع تحسينه في ما بعد، ليكتشف بعد فوات الأوان أن »الأوراق الموقعة« لا تحمي وحدها الحق التاريخي ولا تعيد الأرض المحتلة بقوة السلاح… خصوصا إذا كان الراعي الأميركي منحازا، بالأصل، للطرف الجنوبي، تمكينا لنفوذه على سودان المستقبل وجواره جميعا.
لقد »غدر« الحكم السوداني بمصر (ومعها ليبيا)، وعقد من خلف ظهرهما »اتفاق إذعان« ستنعكس نتائجه، في بعض وجوهها، على مصر أولا وبشكل خاص… فالسودان »شأن داخلي« مصري، ليس فقط لأن نهر النيل وهو مصدر الحياة في مصر يجيء عبر السودان، بل لأن أي تهديد لوحدة السودان سيلقي بظلاله السوداء على جيرانه جميعا، وفي الطليعة مصر، خصوصا وأن تبريرات أي انفصال محتمل ستلامس مسائل العرق والدين واللغة، وهي استثمارات مهمة لقوى الهيمنة الأميركية والاسرائيلية في القارة الأفريقية عموما وفي الوطن العربي بشكل خاص.
وإذا كان الاتفاق الجديد بين الحكم في الخرطوم و»جيش التحرير الشعبي« يشكل على حد وصف أحد مهندسيه، الدكتور غازي صلاح الدين »قفزة في مضيق بين جبلين« فإن مجرد العبث بمكونات أي وطن، على طريقة »بروتوكول مكاكوس« سيفضي الى كوارث، إذ سيختفي »الكيان« وسيتحول الشعب الى مجموعات من القبائل والطوائف والإثنيات لا يربط بينها رابط لا في السياسة ولا في الأرض ولا في السماء، لا تهدأ الحروب في ما بينها إلا لتتجدد عندما يتوفر من يسلّح ومن يموّل »المنشقين« لأغراض تخص أصحاب المصالح في تفتيت البلاد… فكيف إذا صار النفط بين هذه المصالح؟!
وعلى حد قول جون قرنق زعيم »الحركة الشعبية لتحرير السودان«، التي كانت متهمة على الدوام بأنها انفصالية فإن »النفط قاتل.. فأوقفوا هذا القاتل«!
لكن النفط شكّل عنصر ضغط إضافياً على الحكم المركزي في الخرطوم، جعله يتخلى عن »الشريعة«، وعن »المركزية« وعن »الأمن الوطني« للسودان، ومن خلفه لمصر، مقابل أن تصفح الإدارة الأميركية عنه وتنسى »خطاياه« في التعامل مع »الإرهاب« ومنحه القواعد لأسامة بن لادن وأمثاله من المغامرين أعداء النظام العالمي الجديد.
***
الفرق كبير بين الاعتراف بالخصائص الذاتية للفئات المكونة لشعب من الشعوب، بما فيها العرق والدين والثقافة، وبين التسليم بتفكيك الكيان السياسي الموحد، تحت شعار »تقرير المصير«… فالحاكم الظالم لا يفرق بين »شمالي« و»جنوبي« وبين »مسلم« و»مسيحي« و»وثني«، والمشكلة معه تكون سياسية ولا تكون عرقية، أو طائفية، والا لكانت الولايات المتحدة الأميركية ألف دولة، بل ولكانت اسرائيل عشر »دول« على الأقل!
إن ما جرى ويجري في السودان وفيه خطير جدا على الكيانات السياسية العربية جميعا، وهو سينعكس إضرارا بالمصالح القومية، وقد يلقي بظل أسود على الوحدة الوطنية داخل كل قطر عربي.
ولبنان معني، ولو غفل حاكموه،
فليس أمرا عارضا أن يعاد النظر بالكيانات السياسية على قاعدة من الدين أو العرق أو اختلاف اللغة والأرومة القبلية.
… ولكن أين يقع هذا كله، سواء ما يجري في فلسطين أو في السودان أو ما يدبر للعراق، في سياق »حرب الحامل والمحمول«؟!
لننتظر الفصل الجديد من »حروب الخميس« بعد أيام ثلاثة، وبعدها قد نجد من الوقت ما نصرفه في هذه المسائل العارضة… وأيننا من السودان، يا أخا العرب؟!

Exit mobile version