عشت سنوات، وما أزال، أجمع حكايات عن الحب، عن كل أنواعه، حكايات عن حب شخص لآخر، حب صبي لفتاة، حب نساء لرجل، حب الناس لزعيم، حب زعيم لشعبه، حب امرأة للحياة، حب إنسان لنفسه، نعم حب من كل نوع، ولكني كثيرا ما كنت أتوقف طويلا أمام حكاية بعينها قبل أن أقرر ضمها لمجموعة حكاياتي عن الحب، أوقفني في إحداها الصدق فيه وفي أخرى حجم التضحية من أجله، وفي ثالثة وقعه على الغير، كان الغير شعبا أم ملاكا أم عبدا فقيرا أم كاتب هذه السطور.
***
صدر القرار بتكليفي السفر إلى سانتياجو عاصمة الشيلي في أمريكا اللاتينية، قضيت الشهور السابقة على السفر أسأل وأسمع وأقرأ عن قارة لا تربطني بها علاقة تستحق الذكر، أذكر أننا درسنا جغرافيتها مع جغرافيات أخرى، وفي المتابعات السياسية تعرفت من بعيد على بعض معالم حضارة مختلفة عن معالم حضارات أخرى في القارات القديمة وبالتأكيد مختلفة وأشد تعقيدا عما خلفته أساليب حياة الشعوب الأصلية في أمريكا الشمالية.
***
تغيرت أمور كثيرة منذ لحظة إبلاغي بقرار سفري منها الإقبال على قراءة كل ما اقتربت منه أصابعي المعروفة بفضولها الزائد عن الحاجة، قرأت وقرأت وبين ما قرأت في قصاصة اصفرت بفعل الزمن عن امرأة غيرت بالحب وليس بالثورة والغضب وجه الأرجنتين وصاغت واقعا جديدا للمجتمع الأرجنتيني، رأيت مع ما قرأت صورة وجه شاحب لامرأة في العشرينيات من عمرها شقراء الألوان، واسمها حسب القصاصة إيفا ديوارتي، لا أخفي، ولم أخف على أحد، أنني تعلقت بالصورة، أو قل بصاحبة الصور، ومنذ ذلك اليوم لم تتوقف محاولاتي الاقتراب أكثر فأكثر من الحكاية برمتها.
***
اخترنا للسكن عند وصولنا بيونس آيرس قادمين من شيلي شقة في الطابق الثالث من عمارة أنيقة في حي من أحيائها الراقية، تطل الشقة على شارع ليبرتادور أحد أشهر شوارع العاصمة فهو أحد الشوارع الأطول في المدينة، وهو الشارع الذي تقع على ناصية انطلاقه إحدى محطات القطارات التي تربط العاصمة الكبرى بمدن الداخل، كثيرا ما وقفت في الشباك أراقب حشود الركاب القادمين إلى العاصمة للعمل أو للدراسة أو للتسكع في شوارع أعتقد أنها كانت بين الأجمل والأرقى فيما رأيت في حياتي حتى ذلك الحين.
***
قرأت أنه في ذات يوم نزلت في هذه المحطة من قطار قادم من مدينة صغيرة في ريف العاصمة الكبرى فتاة شقراء الألوان ضعيفة البنيان جميلة الوجه جذابة الطلة فقيرة الملبس، خرجت من المحطة ومشت بخطى غير مترددة تتلقى رسائل الغزل بابتسامتها الشاحبة حتى وصلت إلى محطة الحافلات، هناك سألت ثم ركبت إحداها.
فتاتنا كانت تدعى، ماريا ايفا ديوارتي، وصلت بيونس آيرس في عام 1934، وهي في الخامسة عشر من عمرها وفي نيتها أن تعمل ممثلة في الإذاعة، اختلطت بعالم الفن والمسرح والسياسة وبخاصة العمل النقابي، التقت من خلال هذه الأنشطة بالعقيد خوان بيرون، كانت تدور على الموائد في حفل خيري بمدينة سان خوان تجمع التبرعات لضحايا الزلزال حين وقعت عيناها عليه، جدث هذا في يناير من العام 1944، وقتها كان العقيد خوان بيرون وزيرا للعمل.
***
تزوجا في العام التالي، كانت في السادسة والعشرين وكان في السادسة والخمسين، لم تهدأ سحبته أو صاحبته إلى حيث يقيم العمال وأصحاب الدخول المتواضعة، جعلت منه بطلا، نجحت، أو قل نجحا معا، أو فلنقل فعل الحب مفعوله السحري، مضى عام على لقائهما، عام لا أكثر، صار رئيسا للجمهورية وصارت سيدة الارجنتين الأولى ووزيرة للعمل وما تزال في السابعة وعشرين من عمرها، وبمدة ستة أعوام كانت تقود أهم حركة سياسية عرفتها قارة أمريكا اللاتينية والأرجنتين بخاصة.
أسست مؤسسة اجتماعية حملت اسمها بعد أن أضافت إليه لقب بيرون بصفته زوجها وبطل حياتها، وشكلت أول حزب سياسي نسائي عرفه العالم، أحاطها الفقراء بهالة فوق هالة حتى أن الأقوال ترددت بأن الفاتيكان أصابه بعض القلق، وبخاصة بعد أن أقدم رجال دين على تشبيهها بالقديسة وأن كنائس أقيمت تحمل إسمها، أنا نفسي وبعد أكثر من ثمانين عاما على انتشار هذه الأقوال أشهد بأنني دخلت مساكن لعائلات من أصول عمالية ورأيت في كل منها تمثالا لإيفا بيرون تزينه هالة فوق رأسها ومن حوله صور دينية تظهر إيفا في كل منها.
***
اعتقلوا خوان بيرون، اعتقله زملاؤه الضباط غيرة وحسرة، فما كان من إيفا الا أن راحت بنفسها تجوب أنحاء ضواحي بيونس آيرس حيث يسكن العمال والفقراء تحثهم على التجمع والخروج إلى الميدان احتجاجا على اعتقال بيرون، تظاهر في ذلك اليوم أمام قصر الرئاسة أكثر من ربع مليون شخص حتى أفرج عن بيرون وخرج ليخطب فيهم مؤكدا على نيته الاستمرار في سياسته رفع مستوى معيشة الطبقة العاملة ولو كان على حساب الأغنياء.
***
في اليوم التالي تزوجا مدنيا ثم كنسيا بعد شهرين وتقرر أن يكون هذا اليوم عيدا وطنيا، ظل حزب العدالة يحتفل به تحت عنوان “يوم الوفاء”. كتب خوان في مذكراته أنه قرر في ذلك اليوم أن يعتبر إيفا “أنا الثاني”. كان عمره في ذلك اليوم 48 وعمرها 24، يومها دعت نقابتها، نقابة الممثلين والممثلات إلى اجتماع لتقول لهم انظروا وعووا جيدا أن كل فرد في هذه النقابة يستطيع أن يصل إلى ما وصلت إليه من مجد وعظمة، وصلت بالحب.
***
قامت إيفا بكل ما قامت به بينما السرطان يتمدد حرا في جسدها حتى وصل إلى رأسها فمخها، فشلت العمليات، اشترت أفخر الثياب من كريستيان ديور والمجوهرات من كارتييه، وقامت برحلة في دول أوروبا باعتبارها زوجة رئيس الأرجنتين، قابلت شارل ديجول وألغت زيارتها لبريطانيا العظمي عندما بلغها أنها لن تقابل العائلة المالكة، انتهت بها الزيارة عند بابا الفاتيكان الذي أهداها مسبحة، ظهرت على غلاف مجلة التايم ثم عادت وقد أثقلها المرض، وجدت في انتظارها قرارا من البرلمان بتدشينها ” زعيما روحيا للأمة الأرجنتينية”.
***
ماتت ايفيتا وعمرها ثلاثة وثلاثون، سجلت كتب التاريخ جنازتها مع جنازة عبد الناصر باعتبارهما أكبر جنازات القرن، بعد موتها قررت وزارة التعليم تدريس مذكراتها في كتاب بعنوان “سبب حياتي”، وهو الكتاب الذي يحض النساء على فرض أنفسهن على كراسي الحكم والسياسة، كما قررت الحكومة فرضه كمقرر على جميع موظفي الدولة، ماتت في عام 1952 وبعد موتها لم يمكث بيرون في الحكم طويلا ولم تدفن، سرقوا الجثمان وظل مسروقا 16 سنة، انقسموا بعضهم خاف عليه وبعض آخر وهو في السلطة خاف منه، انتهى الأمر بإرساله بعد سنين عديدة إلى زوجها خوان بيرون المنفي في مدريد.
***
زرت عديد العائلات الأرجنتينية بعد مرور أكثر من سبعين سنة على رحيلها، أصر الشباب في أكثرها على أن أستمع إلى شريط سجل عليه آخر رسالة من إيفيتا، انتهى الشريط بصوتها الضعيف والمنهك وهي تقول لشعب الأرجنتين “أحبكم”.
***
من حين لآخر أسعى لقضاء دقائق مع شريط مسرحية بطولة المغنية الأمريكية مادونا، أسمعها تغني نيابة عن إيفيتا الأغنية الرائعة وعنوانها “لا تبكي من أجلي يا أرجنتين”.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق