طلال سلمان

إن حبهن عظيم

من سناء إلى وفاء،

نعم. بلغني الخبر. وصل صباح اليوم وهو الآن في الفندق. يحتل مقعدا وثيرا من مقاعد صالة الاستقبال وحقيبة يده ملقاة على المقعد المجاور. تقول صفاء أنه ينتظر على أمل أن تجد له غرفة ليبيت فيها بعد أن ألغى الفندق حجزه لفشله في تأكيده قبل سفره من القاهرة. قالت أنها لم تعرف عن الحجز لأنه لم يتصل بها شخصيا كعادته لتتابع بنفسها إجراءات الحجز واختيار الغرفة المناسبة وترتيب استقباله في المطار باعتباره نزيلا متميزا وصديقا قديما لها ولإدارة الفندق.

•••

من صفاء إلى سناء،

اتصلت بي وفاء. أعربت عن رغبتها في المساعدة في حل مشكلة ترتيب مكان لخالد يقضي فيه فترة إقامته في القرية. كنت أبلغتها، كما أبلغتك، أنني حتى مع كوني مديرة للفندق لم أتمكن من توفير غرفة له، حتى أنني لجأت لنزيلين من الشباب أعرفهما معرفة وثيقة أطلب منهما أن ينتقل أحدهما ليسكن مع الآخر لليلة أو ليلتين، اعتذرا لسبب لا يمكنني مناقشته وهو أن أحدهما ينتظر وصول زوجته في أي لحظة إن هي استطاعت توفير جليسة لطفلها. اتصلت بأصدقاء من الأجانب سكان القرية من الذين يرحبون عادة باستضافة نزلاء موصى بهم لفترات قصيرة عندما يعقد في القرية مهرجان ترفيهي أو مؤتمر لعلماء وقادة فكر. لم أجد واحدا أو واحدة لم يسبقني إليها مكتب سياحة أو صديق مشترك.

لم تيأس وفاء. راحت تطرح اقتراحات من بينها حجز غرفة في أحد فنادق المدينة الكبيرة القريبة من القرية. استبعدت أن يقبل صديقنا خالد هذا الحل فواجباته في هذه الزيارة تستدعي وجوده قريبا منها. تجاسرت وفاء فإذا بها تقترح حلا سارعت أو بالأصح تسرعت فحكمت عليه بالاقتراح المستحيل. قلت لها أنا لن أجرؤ على طرحه عليك. تعرفين وفاء. كانت دائما وعلى امتداد صداقتنا الثلاثية أشدنا هوسا باللاواقعية وأكثرنا اطلاعا على تاريخ علاقات الشعوب بخرافاتها وأساطيرها، وأعظمنا فهما بالرجال. كانت، وما زالت، تقول عن الرجال “الرب خلقهم ثم كلف النساء بانضاجهم على نار باردة. ألم يكن خالد زوجا لصديقتنا سناء، فلنعده إليها. لن نجد في القرية من يهتم به ويرعاه ويفهمه أحسن من زوجته. طلباته ورغباته تعرفها من دون أن يطلبها أو يعرب عنها. تعرف كيف تقرأه. اختبرت أمزجته. أنت وأنا كنا مجرد صديقتين لم نعرف عنه إلا ما كان يعلنه أو تسر به لنا ثالثتنا التي كانت تقول أنها تعرف عنه ومنه كل شيء حتى تبين لنا أنها لم تكن تعرف عنه ومنه ما كان يجب أن تعرف”.

•••

من سناء إلى صفاء ووفاء،

قرأت اقتراحكما. ولكن قبل أن أجيب أتصور أنه من واجبي أن أحكي لكما من جديد حكايتي مع خالد. سنوات كثيرة مرت على انفصالنا ورحيله من هذه القرية الرائعة، الجنة التي اخترنا، أنتما وأنا، أن نعيش فيها ونجلب إليها من الرجال من نختارهم للعيش فيها أزواجا لنا. اعترف، وتعترفان معي، أننا فشلنا. كنا نعرف أن الجنة ليست إلا لذوي العزائم وقررنا، كما ولا شك تذكران، أن نتشدد في اختيار الرجال الذين سوف ننتقيهم من بين مئات المرشحين ليعيشوا معنا في الجنة. أذكر كم بددت في عملية الانتقاء من وقت رائع أراقب رجلا يتعذب في الملل، وآخرا يتململ من طول السكون وعمقه، وثالثا ضاقت معدته بأطايب الغذاء الصحي، ورابعا يضج بجمال المنظر وبصوت مياه البحر المتسربة في القناة وهي تداعب مركبنا الصغير المربوط إلى مرسى بدائي منصوب عند مصب حديقتنا، وخامسا وسادسا وسابعا.. تذكران كم استمتعنا خلال تلك الاستخبارات كل منا على حدة في بيتها وفي الليل نجتمع لنقارن خلاصاتنا وعلى ضوئها نقرر تعزيز العزم والقسم ألا نحيد عن هدفنا، ثلاثة رجال يتحملون سعادة العيش الدائم في الجنة.

فشلتما يا صديقتايا، أما أنا فأفلحت، ولو إلى حين. فشلتما لأنكما خلصتما مبكرا إلى نتائج راح ظني وقتها إلى الاعتقاد أنكما تسرعتما. صفاء توصلت قبل الأوان إلى أن أكثر نصيبها من المرشحين فضلوها لو انفصلت عن الجنة، اذكرك يا صديقتي وأنت تعترفين لنا أنك حاولت جهدك معهم ليقتنعوا بأن الجنة باقية معك أو بدونك. رفضوا العرض. قال أحدهم أنه لن يعيش يوما في الجنة إن غبت عنها لأي سبب.

لم تكن وفاء أوفر حظا مع نصيبها من المرشحين. تذكرين يا عزيزتي أن أحدهم رأى الجنة التي اخترناها زاعقة في حلاوتها. يومها غضبنا ثلاثتنا عندما وصفها بأنها قطعة من البسبوسة يحتاج الإنسان فور مضغها وقبل ابتلاعها إلى قضم قطعة من اللفت المخلل للتعويض عن ميوعتها. الثاني طلب منك يا وفاء أن تصحبيه في جولة بالجنة التي نعيش فيها. طلبنا منك أن نكون معكما خلال الجولة فالرجل لم يكن مريحا للعين ولا للأذن. بالفعل ذهبنا معك. سرنا خلفكما نتابع وننصت. رأيناه لا يترك بيتا دون أن يتوقف أمامه يدقق النظر في داخله عبر نوافذه ومداخله، وبعد كل بيت يهز رأسه تعبيرا عن حسد أو غيظ أو نقص في الرضا. نقطع الطرق بين الأشجار وعبر القنوات وعند نهاياتها يتوقف ليهز الرأس في نفس الاتجاهات وعلى قسمات الوجه التعبير نفسه، حسد أو غيظ أو نقص في الرضا. وصلنا إلى بيتك الأنيق دخلنا ولكنه رفض الدخول معتذرا بأنه تأخر عن موعد العودة، مصرحا بقوله “جنة بدون ناس ما تنداس”، وأضاف “لم نقابل شخصا واحدا على طول المشوار”، كنت أنت يا صفاء من أحسنت حين أجبت بقسوتك الناعمة “طبعا تقصد أنك لم تقابل امرأة وجها لوجه ولم يسمح لك زجاج النوافذ الغامق بأن تنفذ ببصرك إلى حرمات البيوت. ارحل من هنا فورا قبل أن تلوث جنتنا بما يدور في ذهنك الآن”.

أنا اختلفت في الخلاصات عنكما. وجدت الرجل، وبدقة أشد وجدناه ثلاثتنا، حاز منكما ومني  على أعلى متوسط للدرجات. جاء إلى قريتنا بحثا عن سكينة وسكون وعن امرأة. قال، كما تذكران، أنه وجد ما سعى إليه في الساعات الأولى من إقامته في القرية. وجدني ومعي السكون والسكينة. وجد أيضا أن الناس هنا لا يمارسون الحسد أو الغيرة. وجد، بين ما وجد، أن كل أطباقنا شهية وأن الناس وهي تمشي في ممشى المارينا تتهامس كما يتهامس العشاق. وجد في تقلبات الريح مصدر خير وجمال لهذه الجنة، كان يقول وكنا نسمعها بانبهار وحب “لولا هذه الريح المتقلبة المزاج لما تجددت المياه في القنوات، ولما استبدلت الأشجار أوراقها الذابلة بأوراق خضراء، ولما اشتغل أهل الجنة بمتعة الإنصات إلى الأنغام الصادرة عن اختلاط حفيف أوراق الشجر بأصوات السكون المطبق”. كان يقول أيضا “صحيح قول من لا يفهمون أن الجنة بدون ناس ما تنداس وصحيح أيضا قول من يفهمون أن الجنة تفقد سبب وجودها لو اكتظت بأناس لا يقدرون الجمال والسكون والريح المتقلبة. الناس ليسوا سواسية، منهم المرشحون للعيش في الجنة والمرشحون لسكن المدينة الكبيرة الصاخبة”.

عشنا سنوات وهو بيننا. عاش بيننا رجلا لثلاث نساء، زوجا لواحدة وراعيا وأحيانا كثيرة حاميا للثلاث. استحق حبنا. ذات يوم جمعنا ليقول لنا أنه اكتشف للأسف أن الجنة لا يمكن أن تكون أبدية. هو المحب والعاشق في محرابها بدأ يشعر بالملل. قرر الرحيل حتى لا يفسد علينا أجواء حياتنا. قال “حتى في الجنة يجب على أهلها أن يجربوا العيش خارجها بين الحين والآخر. فكما أن الجنة ليست لكل الناس فهي كذلك ليست لكل الأوقات”. تبدل الرجل وقرر الرحيل ورحل. غاب عشر سنوات وها هو يعود في زيارة تقولان أنها خاطفة وتطلبان مني استضافته في البنسيون الذي أديره.

تعرفان كم أحبه. كان نغمة حلوة أرددها حتى اليوم. إذا وافقت على اقتراحكما واستضفته سوف ينام في أحسن الغرف، وقبل وصوله سوف أرشها بعطره المفضل، إن لم يكن غيره  لعطر آخر كما غيرني. أشياؤه ستعود حتى لو لم يتعرف عليها. أتعتقدان أنها اختفت في زوايا النسيان؟.  أنا نفسي كنت واحدة من أشيائه. أتساءل إن كان يذكرني! هل يتذكر شكلي وطباعي وحبي ودموعي، هل يتذكر تفاصيلي ولبعضها، كما كان يقول همسا، سحر الجنة التي أعيش فيها. سحرته فاختار جنتنا موطنا. كم أنا سعيدة بعودة الرجل! نعم. نعم. أعرضوا عليه الاستضافة في بيته بل وفي غرفته. كلنا سنفرح بوجوده معنا، أنا وأنتما وأشياؤه الأخرى والجنة التي احتضنته. كلنا.

•••

من صفاء في الفندق إلى سناء،

عرضت عليه اقتراحنا. يشكرك ويشكرنا. ويأسف شديد الأسف لأن إقامته في القرية قصيرة جدا وهو مضطر للعودة إلى المدينة الكبيرة في الصباح الباكر. قال أيضا أنه لاحظ، للأسف، أن القرية أو الجنة كما نسميها لم تتغير. ختم كلامه لي بالقول “بمعنى آخر.. شعرت خلال الساعات القليلة التي قضيتها هنا أن أسباب رحيلي ما تزال قائمة. لقد ازداد يقيني بأن الجنة، أي جنة، لها ناسها. وأنا لست واحدا منهم. حاولت وفشلت”.

Exit mobile version