طلال سلمان

إمبابة.. إحدى المحطات الصعبة في حياتي

معظم إن لم يكن كل ما يرد في السطور التالية منقول عن رواة لاعتبار هام وهو أنني كنت خلال الأيام الحاسمة في هذه المحطة من حياتي غائبا عن الوعي أو مغيبا عنه. بدأنا اليوم الأول، وكان يوم جمعة، بآلام في صدري غير معهودة ولا محتملة. كنا، حسب ما يذكر الرواة،  في شتاء عام 1995 وأهل القاهرة على أبواب عطلة. أيقظت زوجتي عندما فاجأتني آلام في الصدر عجزت معها عن النطق. كان الوضع غير مألوف لها أو لي. مرت عليها لحظات فزع وهي تبحث في دفتر هاتفنا عن رقم طبيب أو آخر. خفت عليها وقد اكتسى بالاصفرار لون وجهها وفي عينيها إشفاق مختلط بالرهبة وعلى شفتيها علامات رعشة. أظن أنني غبت عن الوعي في اللحظة نفسها التي رن فيها هاتف المنزل. نقلوا عنها قولها إنها لم تصدق أن صلاتها أتت بالمنقذ وبهذه السرعة. كانت عادة الزميل الصحفي الكبير فهمي هويدي الاتصال صباح الجمعة والدنيا حسب تعبيره هادئة لنتبادل الرأي في موضوعات السياسة والمجتمع.

***

قالت إنها استطاعت إبلاغه بأنها حسب تقديرها الطبي، وهو محدود على كل حال، تعتقد أن الأزمة قلبية وحادة ولا تحتمل الانتظار وإنها لا تعرف ماذا تفعل فالصيدليات لم تفتح أبوابها والأطباء المسجلون في دفترنا لا يجيبون. طلب منها منحه دقائق عاد بعدها ليبلغها أن عربة إسعاف من مستشفى الدكتور مصطفي محمود ستكون أمام بيتنا خلال عشر دقائق، وأن مسعفين سوف يصعدون للشقة ليصطحبوا المريض إلى المستشفى الكائن عند مدخل حي إمبابة قريبا من الميدان الرئيس، وغير بعيد عن محل إقامتنا في المهندسين.

***

وصلنا المستشفى لنجد في انتظارنا، حسب رواية الابنة الأكبر، صاحب المستشفى. خلال ساعات امتلأ المستشفى بالزوار من العائلة والجيران والأصحاب. بدا لهم كما بدا لمن استدعاهم أن الأمر خطير. قطع أطباء القلب والعناية المركزة التابعين للمستشفى إجازتهم ليكتشفوا أن حقنة ذات ضرورة حيوية لحالة الأزمة غير موجودة في المستشفى، فضلا عن أن الصيدليات الكبيرة في الحي لم تفتح أبوابها. سمعت أن حالة الطوارئ امتدت بتأزم أشد حتى ساعة متأخرة من عصر اليوم. قيل أن هيكل كان موجودا في انتظار طبيب قلب كبير يعرفه شخصيا وهو الذي دعا هيكل لمشاركته الطلب إلى عميد كلية الطب بالقصر العيني إعارة المستشفى حقنة من خزائن الجامعة على أن ترد صباح اليوم التالي. يذكرون أن نجل هيكل الأكبر وكان طبيبا حديث التخرج هو الذي أتي بالحقنة وسلمها إلى الطبيب المشرف على أقسام العناية المركزة بينما بلغت حالة المريض حدا بالغ التدهور. سمعت من زائر كان هناك يصف الحال في المستشفى بالمؤسفة، ففي ركن من الردهة اجتمع الواجمون وفي ركن آخر المستترون خلف دموعهم وفي غرفة للعائلة بالقرب من العناية المركزة زوجتي مع أطباء يداوون أعصابها ويحاصرون ضغط الدم المتوالي الارتفاع وآخرون من العائلة يلبون رغبتها استدعاء ابننا من الخارج، وعلى مقربة من باب الغرفة جلس هيكل مع مجموعة أخري في انتظار شيء أو آخر.

***

حل المساء وما تزال الأخبار القادمة من غرفة العناية المركزة تعزز ما خرج منها طول اليوم عن استقرار التأزم في الوضع الصحي. كانت لحظة فارقة حين دخل موظف من مكتب الاستعلامات واتجه مباشرة إلى حيث جلست زوجتي وانحني ليهمس في أذنها ثم وقف كمن ينتظر ردا. يبدو أن الموظف لم يراع وضعها الصحي حين أبلغها شيئا أزعجها إلى حد دفع بالدماء إلى عروق رقبتها ووجهها وبالتأكيد ارتفع ضغط الدم إلى حدود غير مقبولة. تمالكت نفسها حتى قالت “خليهم يتفضلوا إذا وافق الدكتور”.

***

ترددت ثم قررت أن تخرج بنفسها لتستقبل هذا الفوج من الزوار. أذكر أنها وصفت الموقف بكلمات تكاد تكون كالآتي “وجدت أمامي قسما متقدما في العمر ومعه اثنين أوفر شبابا يرتدون أيضا الثياب الكنسية. قال بصوت هادئ مفعم بمشاعر التفهم للموقف وحزنها والازدحام في الردهة، نحن هنا بتكليف من كنيسة (..) بمصر القديمة لنصلي مع المريض أملا في أن يسترد صحته ويرجع إليك من حيث هو الآن وبإرادة الرب وإلى أفراد عائلته وأصدقائه ومحبيه”. زائرة كانت هناك علقت لي بقولها إن التكليف بالزيارة ربما صدر بناء على معلومات أن النهاية ربما حلت وأن المريض ربما وصل إلى نهاية رحلته التي قررها الخالق وأحاطها برعايته.

خرج القس من العناية المركزة ليقول لزوجتي ما معناه “زوجك سيشفى وقريبا جدا سوف يدخل الرب إلى قلوبكم الطمأنينة”. حاولت لسنوات أن أجعلها تتذكر اسم الشخص الذي طلب من كنيسته القيام بهذا الدور النبيل.

***

مضى على هذه المحطة الأليمة سنوات. وبالصدفة المحضة عرفت الاسم ونشأت علاقة صداقة طيبة وزمالة مثمرة للطرفين تخللها تبادل رسائل بصفة تكاد تكون منتظمة. كانت ترد بانتظام على رسائلي وتكتب عن رحلاتها عند بناتها. ثم توقفت. كتبت أتساءل ولم ترد. كتبت مرة أخرى ومرات حتى ليلة أمس عندما وصل على صفحة رسائلي نص بالمعنى التالي “أنا (س) ابنة مدام (ح)، للأسف مامي تعبت فجأة.. وراحت السما من إسبوعين. إدعيلها. ومتشوفش حاجة وحشة”.

***

كعادتي لم أتأخر في الرد وكان تقريبا كما يلي “يا إلهي!! راحت السيدة الصديقة الكريمة التي أفضالها لا تحصى علي وعلى عائلتي. ربنا يصبركم ويرعاكم ويرعاها. هي الآن في حمايته”.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version