غزة ـ حلمي موسى
اليوم الثاني بعد المئة على العدوان، والأمل يقوى مع مرور كل يوم بانكسار العدو وزوال الاحتلال، وكلنا أمل بأن يرى شعبنا ثمار تضحياته قريبا، في وطن حر ومزدهر.
**
في كل حديث إسرائيلي عن العدوان على غزة، هناك إشارة للجبهة الشمالية والحرب الدائرة فيها، وإن بوتيرة مختلفة، مع “حزب الله”. ويبدو أن استمرار الحرب على غزة، وتكاليفها المادية والسياسية، قد فتحت عيون قادة الكيان وأنصارهم على أبعاد أي حرب محتملة مع حزب الله وكلفتها، لاسيما إذا دارت بموازاة حرب غزة، أو قبلها أو بعدها.
وإذا كان الحديث عن العدوان على غزة يدور عن كلفة بشرية لا تقل عن ١٤٠٠ قتيل سقطوا منذ 7 أكتوبر، وكلفة اقتصادية يتوقع أن تصل الى 255 مليار شيكل (أي ما يقترب من 70 مليار دولار)، فإن الكلام يتغير عندما يتعلق الامر بالحرب مع لبنان، ومع حزب الله.
وبعيدا عن الكلفة السياسية لحرب محتملة مع لبنان، يتعين النظر إلى طبيعة النقاشات الجارية حول سبل التوصل الى صيغة تجنب الحرب بين الطرفين.
ويتعيّن الانطلاق من نقطة أولية تعود، على الأقل، إلى ظهيرة يوم 7 اكتوبر. في ذلك اليوم، اهتزت ثقة القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية بنفسها. واهتزت معها ثقة القيادة السياسية بالقيادة العسكرية. وفي زمن التيه، يتصور التائه أن كل الطرق تقوده إلى مراده من دون أن يتأكد من صحة ذلك.
وكان رد الفعل الأولي لجيش العدو هو أنّ ما جرى في غزة لم يكن ممكنا إلا إذا كان خطوة منسقة مع جبهات أخرى، وخصوصا مع لبنان. لذلك، فقد نادى كل من هيئة الأركان ووزير الحرب إلى المبادرة بتوجيه ضربة استباقية لحزب الله، على أساس أن ذلك سيزيح الخطر الأكبر، ويكبّل أيادي إيران، ويفسح المجال لتصفية الحساب مع غزة.
ولم ترق الفكرة للأميركيين الذين كانوا يفكرون ببرود، وليس تحت الضغط كما الإسرائيليين، لذلك أصروا على أن أولوية إسرائيل هي معالجة أمر غزة، وبعدها يمكن النظر في الشأن اللبناني.
وأنتجت النقاشات بين الطرفين نوعا من الخلاف تحدثت عنه كبريات الصحف الإسرائيلية والأميركية. ولاعتبارات عملياتية تتعلق بمنح الأميركيين فرصة لتعزيز قواتهم في المنطقة، تبلورت فكرة حسم المعركة مع غزة، واحتواء الموقف مع لبنان.
ومع ذلك، عمدت إسرائيل، السياسية والعسكرية، إلى إطلاق سيل من التهديدات ضد حزب الله ولبنان، وهي تهديدات تتمحور حول فكرة تحويل بيروت، أو لبنان كله، الى غزة ثانية. وكثيرا ما أطلق كبار المسؤولين الإسرائيليين تهديدات بإعادة لبنان الى العصر الحجري.
ويتعين ألّا ننسى أن الخطة التي حاول الجيش الاسرائيلي تطبيقها في غزة هي نفسها “نظرية الضاحية” التي لجأ إليها العدو في حرب العام 2006 في لبنان، ولكنها في غزّة طبّقت على نطاق شامل.
وفي حرب 2006، كان الجنرال غادي آيزنكوت نائبا لرئيس أركان الجيش حينها، وهو حاليا عضو مجلس الحرب، ممثلا هو وبيني غانتس حزب “المعسكر الرسمي”.
لاحقا، ومع ظهور مصاعب جدية تعترض قدرة جيش العدو على حسم المعركة في غزة، صار الخطاب الإسرائيلي ميالا أكثر لإيجاد حل في لبنان يضمن لإسرائيل مزيدا من الشعور بالأمن، ولا يقودها الى حرب واسعة. وصار قادة الجيش ووزير الحرب يرفقان تهديداتهما بنوع من التطلع الى حل سياسي يمنع الحرب.
وهنا دخل الأميركيون والفرنسيون على خط الوساطة. وقد قدّموا أنفسهم أولا كمن يحاول منع إسرائيل من تدمير لبنان، ومشددين على أنه يجب، لتحقيق ذلك، المسارعة في التسوية وفق الشروط والمطالب الإسرائيلية. وعندما رُفضت هذه الطلبات، صاروا يعرضون أفكارا تتضمن محاولة لحل القضايا الحدودية العالقة كلّها بين لبنان وبين الكيان المحتل.
وتكررت زيارات المسؤولين الأميركيين والفرنسيين إلى بيروت، من دون النجاح في تحقيق أي من المطالب الإسرائيلية.
وعندما تحدث الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عن عدم رفضه لمبدأ التفاوض لمنع نشوب حرب، مشترطا أن يكون ذلك بعد توقف الحرب الظالمة على غزة، تمسّك الوسطاء بالفكرة كمخرج.
وساهم ذلك في دفع الأميركيين والفرنسيين إلى مطالبة إسرائيل بتخفيف الضغط العسكري على غزة كجزء من سلة اشتراطات لتغيير المناخ العام مع حزب الله وإبعاد خطر التصعيد.
وردد معلقون سياسيون وعسكريون إسرائيليون آراءً من قبيل أن اعلان اسرائيل عن إخراج فرقة من قطاع غزة تضم خمسة ألوية تقريبا هي جزء من خطة للتخفيف من الحدة مع لبنان. وفي الوقت ذاته، اعتبر البعض الآخر أن سحب القوات من غزة جاء لتسهيل انطلاقها في حرب مع لبنان. وليس في إطلاق أقوال ونقيضها إلا دليل على استمرار التخبط في الأداء الرسمي الاسرائيلي.
ولكن، ومهما يكن الحال، فإن الوسطاء الأميركيون والفرنسيون يحاولون تسويق سحب بعض القوات الإسرائيلية من غزة على أنها نتيجة جهودهم لتحسين أجواء التفاوض أو الاتصالات مع لبنان، في سبيل درء خطر التصعيد أو الحرب هناك.
بالإضافة إلى ذلك، هناك من فهم من خطاب نصر الله الأخير أن جزءً مهما من التصعيد، أو تلطيف الأجواء على الحدود مع لبنان، يرتكز الى ما يحدث في غزة.
وقد أوصل الأميركيون إلى الاسرائيليين فكرة مفادها بأن سحب القوات من غزة والانتقال إلى المرحلة الثالثة من الحرب، مع تسهيل عودة نازحي الشمال الى بيوتهم، عناوين تسهل كلّها التوصل الى تسوية.
ومع ذلك، يجب الانتباه الى أن الجمهور الإسرائيلي، الذي يتغذى من وسائل الإعلام التي لا تمده بكامل المعلومات عن مجريات الحرب، وخصوصا في غزة، مازال يعتقد بوجوب تدمير حزب الله.
ويتجلى ذلك بوضوح، على وجه الخصوص، في تصريحات قادة مستوطنات الشمال الذين يقولون جهارا بأنهم لا يفكرون في العودة الى مستوطناتهم قبل أن يتأكدوا أن حزب الله بعيد عنهم وعن الحدود، وأنهم لن يكونوا عرضة لهجوم كالذي حدث لمستوطنات غلاف غزة.
ويدّل ذلك كله على أن احتمالات التصعيد في الشمال واردة، وأن كل ما جرى حتى الآن قد يكون “بروفة” لما يمكن أن يحدث لاحقا، وأن كل الحديث عن حلول سياسية يخفي إما درجات من التخبط، أو الألاعيب السياسية التي يجيد الكيان بلورتها لإيصال الوضع الى النقطة التي يريدها.