طلال سلمان

أي فلسطين؟

نشرت في جريدة “السفير” بتاريخ 11 كانون الاول 1974

عن أي فلسطين يتحدث العالم الآن، وهل تراها فلسطين واحدة هذه التي تتحدث العواصم المختلفة عن مستقبلها العتيد؟

إن فلسطين تسير بخطى حثيثة على طريق التحول من “قضية” إلى “كيان”، وكثيرة هي الأطراف التي تحاول الأن أن ترسم صورة “الكيان” وتفصله وفقاً لمصالحها هي، وأحياناً بما يتناسب مع التصور الأميركي – الإسرائيلي لمستقبل الوطن العربي.

إن ثمة خطراً راهناً أن تتحكم القوى المعادية في تشكيل الكيان الفلسطيني بحيث يجيء مقبرة للقضية ونقطة ختام لمسيرتها الطويلة والدامية، مستغلة جملة من الظروف الموضوعية المؤاتية عربياً وفلسطينياً… ذلك إن باب “خذ وطالب” وسيع بالقدر الكافي لأن تهب من خلاله رياح المهادنة والاستكانة بحجة ضرورة الاعتدال حيناً، وضرورة تأكيد التحضر واحترام العقل وروح العصر حيناً آخر.

إن اللغط يشتد، فلسطينياً وعربياً ودولياً، حول صورة فلسطين المستقبل، وحركة الجدل السياسي ناشطة تولد كل يوم مزيداً من التعابير الجديدة المبهمة الدلالات حتى ليصبح التنبيه إلى خطر الضياع والتيه داخل غابة المصطلحات المستحدثة ضرورياً وملحاً.

وأين هي الحدود بين “الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني في وطنه” و”الحقوق الراهنة” و”الحقوق الثابتة”؟

أو بين هذه التعابير جميعاً وتعبير “حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره فوق أرضه”؟

أو “حق الفلسطينيين الثابت في العودة إلى بيوتهم وأملاكهم”، كما جاء في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة؟

وأين يقع، بالضبط، التعبير الأميركي الخاص عن “المصالح المشروعة للفلسطينيين” على خريطة الكلمات المتقاطعة هذه، أضيف إليها النص الأخير الذي تضمنه بيان فلاديفوستوك عن “حق جميع شعوب المنطقة بالأمن والسلام، بما فيها الشعب الفلسطيني”؟

إن كلا من هذه المصلحات يعكس موقفاً سياسياً محدداً من فلسطين قضية وكياناً.

لقد طرح الفلسطينيون تصورهم بلسان قيادتهم السياسية ممثلة بياسرعرفات من فوق أعلى منبر دولي،

لكن هذا التصور لا يعكس نفسه، حتى الآن على الأقل، في مجمل الممارسات السياسية العربية، بل إن بعض هذه الممارسات لا تخدم إطلاقها، بل إنها تتجاهل أو تقفز من فوق الطرح الذي تضمنه خطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة.

ويبدو ضرورياً أن يخوض الفلسطينيون، بعد، معركة سياسية مكشوفة مع أكثر من نظام عربي تمهيداً لالتزام العرب جميعاً بتصور موحد يناضلون من أجل أن يأخذ به العالم ويقره ويسلم به.

إن ثمة صورتين، على الأقل، لفلسطين المستقبل تصطرعان الآن فوق المسرح الدولي:

الصورة الأولى لكيان فلسطيني ممسوخ يمتص الشوق الشعبي الفلسطيني العارم إلى الاستقلال الوطني، ويريح بعض العرب ممن أتعبتهم فلطسين وأعباؤها النضالية الثقيلة فيسقطون عنهم أحمالهم ثم يهربون من الساحة تاركين الفلسطينيين يواجهون مصيرهم بأنفسهم “طالما أن هذه هي رغبتهم”…

وتأتي هذه الصورة متسقة تماماً مع مشاريع الحلول الأميركية المعلنة للمشكلة الفلسطينية، فمثل هذا الكيان الممسوخ سيتحول بالضرورة إلى جزء من المشروع الاستعماري الكبير، وتكون وظيفته عملياً مماثلة لوظيفة الكيان الأردني: مسنداً أمنياً لإسرائيل، ومنطقة من الفراغ العازل يحمي الكيان الصهيوني ويمتص – نيابة عنه – الصدمات الناجمة عن حركة صراع الثورة العربية مع الوجود الإمبريالي.

والنصائح الأميركية التي أسديت وتسدى إلى الفلسطينيين، مباشرة أو بالواسطة، تعكس بوضوح أن واشنطن مثل تل أبيب لا ترى مجالاً لقيام “دولتين” على أرض فلسطين… ولكنها لا ترى مانعاً من قيام “أردنيين” من حول إسرائيل يكملان مع العجز اللبناني الرسمي عن المجابهة صورة المسند الأمني العربي للكيان الصهيوني. وهي لا ترى بأساً في أن يحمل “الأردن الجديد” اسم فلسطين طالما إنه من طبيعة “أردنية” تحدد سلفاً أفقه ومهمته.

إن الولايات المتحدة الأميركية تمارس على الفلسطينيين ابتزازاً مكشوفاً ويومياً مستعينة – كالعادة – بالرجعية العربية.

إنها تقول لهم: حسنا، لقد اعترفت بمصالحكم المشروعة، وأنا مستعدة لأن اعترف لكم بكيان مستقل، بشرط أن تظهروا من الاعتدال والمرونة والاستعداد للتكيف ما يساعدني على إقناع إسرائيل، فإن مانعت كان لي عذري في الضغط عليها، إذ تغدو هي المتعنتة وأنتم الواقعيون!

ولكن “الاعتدال” جرة بلا قعر، والاستعداد للتكيف بحر بلا قرار وبلا شاطئ معروف…

الصورة الثانية، لفلسطين المستقبل تتجسد في كيان يشكل منذ لحظة ولادته النقيض الاستراتيجي لإسرائيل، بغض النظر عن مساحة أرضه بالكيلومترات المربعة، أو عدد سكانه العائدين، أو عدد السنوات الضرورية لاكتمال نموه بحيث يلغي عملياً إسرائيل ليقيم مكانها وبدلاً منها “الحلم” الذي أشار إليه ياسر عرفات.

وأول الشروط لكي يأتي هذا الكيان “صورة مصغرة لفلسطين المستقبل” بدل أن يكون ضمانة استمرار لإسرائيل في المستقبل – وبالتالي – مدخلاً عملياً لإلغاء فلسطين القضية وشطبها نهائياً، أن لا تنقطع علاقته بالثورة وبقضايا النضال العربي الأخرى بمجرد قيامه.

إن فلسطين المقطوعة الصلة بالطموحات العربية المشروعات إلى غد أفضل بركائزه من الاشتراكية والوحدة، هي كيان أردني جديد بغض النظرعن التسميات.

إن فلسطين المستقبل، في تصور الرجعية العربية، هي شيء ما بين الكيان الأردني والكيان اللبناني.

بالمقابل فإن السوفيات يقتربون بخطى واسعة من التصور الثوري العربي لفلسطين المستقبل.

بل إن بعض المطلعين على دقائق الموقف السوفياتي يؤكدون إن موسكو قادرة على أن ترى منطقة عربية بلا إسرائيل “في المدى المتوسط”، أي في مدى الخمس وعشرين سنة المقبلة.

وعلى أرض هذا التصور، مع تأكيده يومياً، يمكن قيام تحالف عربي – سوفياتي حقيقي، سليم من عقد الماضي التي ظلت – وباستمرار – دون وصول الصداقة إلى مداها المنطقي، أي إلى تحالف بين أطراف ثورية في مجابهة ثالوث الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية.

فعلى أرض فلسطين لا يكتسب الموقف العربي فقط مزيداً من الثورية. بل إن مواقف الأطراف الأخرى تكتسب ثورية أصيلة بمقدار ما فلسطين قضية تحرر وقضية مجابهة كاملة مع قوى القهر الاستعماري في أرفع أشكاله.

Exit mobile version