طلال سلمان

أيها الجياع، اتحدوا!!

لأن اللبناني، بوصفه واحداً من العرب، لا يحب أن يعترف بالهزيمة، فهو مدمن على التهرب من تحمل مسؤولياته ومن الإقرار بالخطأ أو بالذنب أو بالتقصير، ولو عن غير قصد!

دائماً هو ضحية، والسبب غيره،

ودائماً يجد من يرمي عليه عبء المسؤولية الثقيل،

فهو، إذا ما حانت لحظة المحاسبة، يتحول في الغالب الأعم إلى قدري، ويستحضر إيمانه المنسي ليبرر له أن ينسب ما وقع له أو ما هو فيه إلى “مشيئة الله”.

“هذا هو المكتوب!! هذه إرادة الله، ولا راد لإرادته! هيك الله بدو!! هذا مقدر علينا، ولا ينفع حذر مع قدر! هذا هو نصيبنا والإنسان لا يأخذ إلا نصيبه.. وقبل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا الخ”.

أما في الشأن السياسي فهو، بشكل عام، محازب متعصب لوجهة نظر “جماعته”، سواء أكانت هذه الجماعة تنظيماً أم طائفة أم فئة أم جهة وصولاً إلى العائلة الكريمة وتفرعاتها،

فإذا ما أحرج أو فضل الحياد هرب بأن رمى المسؤولية على الجميع ونسي نفسه: “كلهم مثل بعضهم، الكل من العجينة ذاتها، إنهم ينهبوننا. هم يضاربون بالدولار ونحن لا نجد رغيف الخبز. كل الزعماء أولاد حرام، أثروا على حساب الشعب، على حسابنا نحن الفقراء، إنهم لا يحسون بهمومنا، ولا يهتمون بمصيرنا. هم دبروا حالهم وجلسوا على الكراسي وتركونا نموت في ذل الحاجة”.

… ويتصل المونولوغ إلى ما لا نهاية، إذا ما استمر التعميم وغابت اسماء القيادات الفذة، أما إذا ذكر اسم أو أكثر فإن المتشاكين ينقسمون فوراً أطرافاً متصارعة كل يبرئ “صاحبه” أي قائده أو زعيمه تاركاً الإدانة تطارد زعيم الآخر، أو زعماء الآخرين باعتبارهم سبب البلوى ومصدر الداء ومعطلي الحل!

أما إذا حضرت الطوائف واستنفرت غرائز المتناقشين فنكون أمام أحد احتمالين: أما أن تتفجر الحرب الأهلية في الجلسة ذاتها، أو يفضل الجميع لدواعي اللياقة أو المجاملة أو ركاكة الحجة أو ضعف الأدلة أو الضجر من هذه “الشريعة” أن يعودوا إلى الاحتماء بالتعميم والتجهيل… وهكذا تصير اسم الحرب الأهلية، بكل أسبابها ونتائجها، “الحوادث”، وينقسم التاريخ إلى “ما قبل الحوادث” و”ما بعد الحوادث”، وطالما إنها “حوادث” فهي ليست من فعل فاعل، وبالتالي فالكل إزاءها سواء.

ولأن الانقسام عميق ومجذر ومختلطة أسبابه ومتعددة مصادره الموروثة والمنقولة و(المحمولة)، يظل المسؤول عن أي كارثة وطنية في لبنان حراً طليقاً، وبريئاً كل البراءة في نظر فئة أو فئات، بل ربما تحول بسبب فعله إلى بطل، كيداً بالخصوم ونكاية بهم وتشفياً أو منعاً للشماتة وهذا أضعف الإيمان!

فما أسرع ما تلبس الكارثة اللبوس الطائفي، فإذا المتضرر طرف لا الكل، وإذا ثمة مستفيد منها حتى ولو كانت فائدته من نوع لحس المبرد!

حتى الجوع صار – بأسبابه – طائفياً،

فجوع الغربية سببه من في الشرقية، والعكس بالعكس،

هنا يقولون: السبب هو الحكم!

وهناك يقولون: بل السبب الحكومة!

هنا يقولون: إن المضاربة على الليرة بالدولار تتم هناك، وبالتواطؤ مع الحكم!

وهناك يقولون: لو اجتمع مجلس الوزراء لصلح الحال!

هنا يقولون: إنهم يريدون تركيعنا وإخضاعنا للهيمنة الفئوية والحزبية المتحكمة بالناس هناك!

وهناك يقولون: إنهم يريدون التمكين للسيطرة السورية ومدها لتشمل مناطقنا المحررة (!!)…

وكالعادة ينتهي حوار الطرشان هذا بأن يتلاقى الجميع في ساحة المزايدة ونفاق الجمهور، فإذا بالمتصارعين يتفقون فجأة على الإضراب، وإذا الكتائبي والشيوعي و”أمل” والاشتراكي و”الجبهة اللبنانية” والقومي السوري و”القوات” يلتقون على مطلب زيادة الأجور وكفى الله المؤمنين شر القتال!

طبعاً زيادة الأجور مسكن قصير الأجل، سرعان ما ينتهي مفعوله، بل هو في الغالب يزيد من خطورة الحالة ويفاقم التردي، فينقل الأزمة من الأفراد إلى المؤسسات ويغرق الدولة في مزيد من الديون ويدفع البلاد إلى لجة التضخم الرهيبة، بحيث يصبح الحل، حتى المؤقت، صعباً في مستوى الاستحالة!

هكذا يزيد جوع المواطن، المتعدد الأسباب الآن، وتكتسب المراجع المسؤولة والقيادات والزعامات المزيد من المناعة، فالاتهام الجماعي والمطلق هو أقصر الطرق إلى التبرئة الجماعية والمطلقة لصناع الكارثة هؤلاء.

يصبح رئيس الجمهورية متهماً، وبائع الفلافل متهماً هو الآخر، الحكومة مقصرة ومسؤولة بالتالي مثلها مثل المحتكر ومثل المضارب بالدولار، المصارف متهمة بالنهب المنظم والمصرف المركزي مدان بالعجز وقلة الحيلة، الميليشيات مرذولة لأنها “تشبح” وتسرق موارد الدولة، والدولة، الغائبة عن الوعي والوجود متراخية ومسيبة مالها تغري به أولاد الحرام!

لا بريء، إذن!! هذا يعني أن ليس هناك من متهم! فأي متهم هو في الوقت متهم أو متواطئ أو شريك للمتهمين!

وتظل الدعوى عالقة لأنها ضد مجهول، ففي القفص يحتشد المدعي والمدعى عليه والنائب العام ومحامي الدفاع وحضرات المستشارين!!

تضيع “القضية” والمسؤولية ويتحول الأمر إلى ما يشبه الكارثة الطبيعية، شأن الزلزال، أو الطوفان أو الجفاف الشامل!

وفي التحقيق الذي تنشره “السفير”، اليوم، والذي يحتل عنوانه صدر صفحتها الأولى، نموذج مجسم لبعض آفاتنا الاجتماعية – السياسية: فالكل يصرخ أو يئن تحت وطأة الجوع، لكن الفاعل مجهول أو مجهل بالتعميم! ويمكن أن تدرج في خانة المتهمين الدول الكبرى والصغرى، البعيدة والقريبة، والقيادات جميعاً السياسية والدينية، النقابية والعمالية، أحزاب الأرض والسماء، الحكام والتجار، السماسرة والمضاربون والباعة على العربات، المحتكرون والميليشيات والأطباء والصيادلة والمستشفيات.

ولشدة ضغط الهم الاقتصادي فلقد قفز الناس من فوق الطبيعة السياسية لأزمتهم ومأساتهم، لم يعد يهمهم أن يحددوا العلاقة الجدلية والعضوية القائمة بين الأزمة السياسية والاختناق الاقتصادي!

بل  لعلهم يتوهمون أن الحل الاقتصادي ممكن بغض النظر عن مدى النجاح في الوصول إلى مدخل للمعضلة السياسية،

فالجوع كافر، لكن الجياع يظهرون الإيمان!

وسبب الجوع سياسي لكن الجياع يتلهون بنتائجه المريعة على وقائع حياتهم اليومية واسباب معاشهم،

حتى الجوع لم يوحدنا بما فيه الكفاية،

لا الأرض وحدتنا، ولا الإيمان باله واحد كان كافياً للتوحيد، ولا وحدتنا حقيقة إن الرغيف واحد وإن انعكاسات المأساة واحدة، لا شرقية فيها ولا غربية!

لا العدو وحدنا في وجهه، ولا نحن توحدنا في تحديد الصديق والتفاهم معه،

حتى ممارسات الميليشيات، وهي من الطبيعة ذاتها، هنا وهناك، لم توحدنا، فما زال بعضها “حامياً” وبعضها الآخر “معتدياً”، بعضها “طائفي” والبعض الآخر “محرر” وضرورة من أجل السيادة والاستقلال والحرية والكرامة والعنفوان الأبي!!

ثم ماذا؟!

صرخة أخرى تذهب في الهواء،

مرافعة إضافية ضد “المجهول” إياه!

“فشة خلق” تدفع هذه المرة ثمنها خمساً وعشرين ليرة لبنانية!!

والحل؟!

لسنا نملك حلاً.

وأنت وحدك لا تملك الحل.

الحل يتطلب قوة ضغط سياسية تعجل في فرض الوفاق كضرورة وطنية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الوطن ومن يمكن إنقاذه من المواطنين،

الحل في أن نتوحد في الجوع كطريق أخيرة للتوحد في الوطن وفي الهوية.

الحل في أن يتلاقى الجياع، ذات يوم، لينتزعوا رغيفهم من سارقيه جميعاً.

الحل في ثورة الجياع، وهذا هو المستحيل بعينه لأن “عنطزة” اللبنانيين تمنعهم من الاعتراف بأنهم فقراء وجياع، ولأن قياداتهم جميعاً موحدة ضد الثورة،

الحل في أن يصل المواطن إلى القرار الصعب والصح: أن يقاتل ضد زعيمه الدجال، ضد قيادته الفاشلة، ضد طائفته إذا لزم الأمر، ضد ذاته المشوهة بحروب القبائل والطوائف المسلحة،

الحل في أن يثبت هذا المواطن وجوده،

الحل في أن نحول الحرب الأهلية إلى ثورة ضد المتسببين فيها والمنتفعين منها والعاملين لإدامتها،

الحل في أن نحارب الحرب لنصنع الثورة، وعبر الثورة يجيء المواطن ويزهر حلم الوطن،

الحل في الصعب،

وأن نموت في طلب الصعب خير ألف مرة من أن نموت جوعاً ونحن نسعى وراء رغيف لن تطاله يدنا لأن “أيديهم” هي الأطول،

فهل نقدر على إلحاق الهزيمة بالحرب لتكون لنا الحياة؟!

وبعد هزيمة الحرب سيكون ميسوراً كل اليسر أن تحقق المطالب جميعاً من الرغيف إلى الإنصاف والاصلاح المنشود!

نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 14 آب 1987

Exit mobile version