طلال سلمان

أيامي التونسية 

حكايتي مع تونس طويلة وناعمة وصافية صفاء سماء الربيع التونسي، تخللتها أيام عاصفة ومطيرة ولكنها أيام الاستثناء الذي يثبت القاعدة. حكايتي كانت من جزئين الأول منهما قصير ومثير والثاني طويل وممتع ومثمر. المثير في الجزء الأول لقاؤنا، هيكل وأنا، مع الرئيس الحبيب بورقيبة في مكتبه بقصر قرطاج. كان هيكل قد اختار القيام بزيارات لرؤساء الدول العربية لقياس حجم التغيير الطارئ على نمط أفكارهم نتيجة حرب العبور التي أسفرت، بين ما أسفرت عنه وهو كثير، عن ارتفاع استثنائي في أسعار النفط وبالتالي عن التغير المحتمل في سياساتهم الخارجية. غبت عن تونس، بعد هذه الزيارة، سنوات قليلة لأعود إليها وفي العزم أن تكون العودة ممتدة إن سمحت كل الظروف.
***
عدت منفردا إلى تونس في الجزء الثاني من حكايتي. أنزلني الأصدقاء بفندق يطل على البحيرة. أذكر أنني اتصلت بزوجتي في القاهرة أستعجل حضورها. حضرت وبالفعل لم تتحمل الإقامة في فندق البحيرة وانتقلنا معا إلى فندق آخر على شاطئ ضاحية آميلكار. ومن هناك بدأ السعي لتأجير بيت في منطقة الضواحي وبالفعل توفقنا واستقر الرأي على بيت في شارع لعله الأجمل والأهدأ والأنقى مناخا في كل العاصمة بضواحيها. قضينا فيه سنوات خمسة أو ما يزيد بشهور.
***
كانت ابنتنا في السابعة من عمرها عندما نزلنا بضاحية قرطاج، أظن، بل أثق تماما، أنها قضت في هذه البقعة أحلى سنين عمرها. ضم الشارع الذي نقيم فيه أشجار نخيل لم أشاهد لها مثيلا في جمالها وعنفوانها في رحلاتي إلى أفريقيا وأمريكا الجنوبية وساحل أمريكا الغربي وولاياتها الجنوبية. ميزته الكبرى التي جعلت السكن فيه مرغوبا أو مفضلا كانت في كونه شارع مغلق في نهايته. كان بالفعل مغلقا بشريط قطار الضواحي الناقل للركاب بين شارع الحبيب بورقيبة في وسط المدينة وضاحية المرسى مرورا ببعض الضواحي المشتغلة بصيد الأسماك وميناء قديم في النشأة والتاريخ. يمر أيضا بمحطات قرطاج، وهذه المحطات كانت لخدمة قصر الرئاسة ومنطقة الآثار التاريخية وسفارة أو أكثر وضيوف مهرجان قرطاج الغنائي وضيوفي.
***
سعدت لسعادة أهل بيتي باختيارنا بيت للسكن في هذا الشارع. كانت ابنتي، وهي ابنة الثامنة أو التاسعة تمشي على قدميها إلى ومن مدرستها الواقعة في آخره، أي عند سور القطار. عشت سنواتنا التونسية مطمئنا إلى أن ابنتي وأمها في أمان كامل خلال ساعات عملي وسفري. كل الجيران في شارعنا حماة بالتطوع أو بالعرف والتقاليد. أبهرني وأبهر زوجتي مستوى تعليم اللغة العربية نطقا وكتابة حتى جاء يوم عادت فيه الابنة باكية لأن مدرسة اللغة العربية عاقبتها على خطأ في الإملاء بالضرب بالعصا على أصابعها. توجهت أمها في اليوم التالي إلى المدرسة لتشكو المعلمة وتطالب بترضية للطفلة خوفا عليها من عقدة نفسية. رفضت المديرة.
***
تعودت الطفلة خلال سنوات إقامتنا في قرطاج أن تمر على أسوار بيوت الجيران تقطف ورق العنب. ذات يوم عادت وهي ممسكة بيد سيدة لا نعرفها. بادرتنا الجارة بالقول إنها إنما جاءت مع الطفلة على أمل أن تحصل من أمها على ما يشبع فضولها. هذه الطفلة تأتي كل يوم لتقطف أوراق العنب، سألتها ماذا تفعل بهذه الورقات لم تجب. جاءت معها إلى بيتنا لتطمئن على أن الطفلة لا تضر نفسها بما تفعله بورق العنب. أظن أنها اطمأنت في اليوم التالي حين وجدت من يدق باب بيتها وهو يحمل إليها صحنا اصطفت فوق سطحه صفوفا من ملفوف ورق العنب على الطريقة اللبنانية.
***
كنت أعود بعد ساعات العمل في شارع خير الدين لأجدها في انتظاري على مدخل جراج البيت لتخفف عنى بعض أحمالي من الورق، ولكن تركيزها أراه معلقا بما في اليد الأخرى. تعودت أن أمر في طريق عودتي إلى منزلي بفرن يخبز الخبز الفرنسي. أنتظر دقيقة في السيارة ليأتي ناحيتي صاحب المخبز يحمل رغيفين وعلى وجهه ابتسامة حلوة وعلى لسانه دعاء بالشفا والصحة. تستقبلني فتاتي في البيت لتحمل عني الرغيفين وكل منهما تقريبا في طول قامتها وعلى وجهها ابتسامة ساخرة أو متوعدة، وقد اكتشفت أن أحدا قد التهم رأس الرغيف وهو ساخن. بقيت حتى يومنا هذا، أي بعد حوالي أربعين عاما، أعترف لها أن هذه الرؤوس التي انهلت عليها يوميا بمتعة فائقة خلال الطريق من المخبز القريب كانت الأطيب مذاقا ورائحة من أي أكلة فاخرة. أعترف أن أشياء كثيرة ما أن ألمسها أو أشم رائحتها أو أتذوق طعمها إلا وتذكرني بتونس، ولكني أخص باعترافي رأس “الباجيت” المخبوز هناك والمتغلب دائما طعما ورائحة حتى على قرينه المخبوز في فرن باريسي كثيرا ما كنت أمر عليه عامدا متعمدا في زياراتي المتقطعة لعاصمة النور والفنون والجمال.
***
كانت أسعد أوقاتنا في أيام العطلات رحلاتنا الوجيزة إلى منطقة تلال وغابات جامارات. هناك جربت طفلتنا ممارسة هواية معقدة. كانت تصر على أن ننتزع من شجيرات الصبير ثمار التين الشوكي. استجبنا مرارا وانتهينا إلى أن صرنا نصطحب معنا قفازات وسكاكين حامية وجاكتات بلاستيكية. وفي الصيف لم يكن أمامنا غير فندق أميلكار القريب من البيت.  هناك قامت صداقة وطيدة بين الطفلة وصلاح ماميش صديقي وزميلي في العمل عاش بعدها سنوات يتصل بي من تونس أو القاهرة ليطمئن عليها.
***
هناك أيضا تعرفت على عديد التونسيين والتونسيات ونشأت صداقات كانت خير معين لي في مستقبل الأيام. بفضلها تعلمت ما لم أكن أعلم عن تونس وما لم أتعلم، وهو كثير جدا ويستحق أن أعتز به.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق
Exit mobile version