طلال سلمان

أهلنا في البراد..

أسبوع طويل مرَّ على هذا العناق الأسطوري ولم يترك خلٌّ خلَّه ولا ضاق صديق بصديقه، ولا ارتفعت أصوات الأمهات المزدهيات بنسلهن تنهر الصغار ليكفوا عن الهرج، ولا هدرت حناجر الآباء الخشنة ببقايا التبغ فيها تأمرهم بالصمت احترامù للضيوف الكثر المزدحمين في »المضافة« التي لم تعد لمثل هذا الحشد.
يكاد الصمت يدوي هنا..
المكان ضيق، مثلج ومظلم، والشمس تحاول فتعجز عن إنفاذ نورها إليهم فتنشر شعاعها على السطح المصفح لعل شيئù من الدفء يتسلّل إلى تلك الكوكبة المحشورة والمحاصرة في ذلك الكهف المغلق والبلا شبابيك تحمل مع الضوء صدى الآذان مضمخù بعطر زهر الليمون ورائحة المباركة الأرض وشميم الوزال والقندول وكف مريم الآخذ الآن في الارتفاع مع سنابل القمح نحو السماء.
المكان ضيق، لكن الكل »أهل«، ولقد تعوّد الفلاحون أن يجلسوا متحاضنين، »محل الضيق يتسع لألف صديق«، أفلا يتسع لمئة وبضعة أنفار، إذن، من قانا وتوأمها صدّيقين؟! ثم انهم هنا »واحد« كما لم يكونوا أبدù: تداخل الأب بالعم والابن بالخال والزوجة بالجدة والصبية المغناج بابن الجيران الذي كان مستعدù لأن يضحي بورد شبابه من أجل لقاء الخلسة، خلف العين، أو في كرم الزيتون، أو عند الغياب تحت تلك الشجرة التي ربما غرسها آدم فكبرت وتضخمت وارتفعت وتكاثفت أغصانها وباتت »ملفى العشاق«… أما الأطفال فقد تعاقدت أيديهم الصغيرة لتقيم حاجز أمان من حول الأهل الملتمين هنا، في عرس قانا الثاني.
المكان ضيق، لكن لا غريب. كل منهم يعرف الآخرين جميعù، برغم نقاب الدم الذي يحجب الملامح، ولا بأس من أن »تنكشف« النساء على الرجال، وأن لا يحتشم الفتية في مضاجعهم القسرية، فهم كأنهم في »البيت«. انه »بيتهم« جميعù الآن، ثم انهم ساكنون كنجوم منطفئة، وهم ما زالوا في »الصورة« لم يغادروها ولا هي ستغادر فتخرجهم من عيون الناس ومن قلوبهم والذاكرة.
* * *
ليس أهل البراد كأهل الكهف، إن لهم قداسة الدم ونور الشهادة.
وهم ليسوا بحاجة لانتظار البعث لكي يؤمنوا فيهدوا ويهدون من ضلّ السبيل. إنهم بذاتهم المعلم والدرس والكتاب المبين.
* * *
لا تصل الصحف الى البراد، وليس فيه اجهزة تلفزيون تلهث بالملاحق الاخبارية او اذاعات تطلق موسيقى التنبيه حتى لا يصدم الناس بالفواجع الجديدة، كما ليس مع احد من »الساكنين« هنا هاتف خليوي ينبئهم سلفا بمن يطلبهم وربما بغرضه.
لكن اهل البراد يعرفون،
انهم يعرفون، ربما اكثر من ذويهم الذين في »الخارج«.
يعرفون مثلا، وبوضوح مطلق الآن، ان اسرائيل نقيض الحياة، انها »آفة« تقتل كل أنواع الحياة والاحياء.
انها تقتل الكهرباء،
تقتل الطرقات والجسور،
تقتل الماء ومعها كل شيء حي،
تقتل الشجر والثمر وزهر الليمون والعطر وشميم التراب الذي منه أخذوا بشرتهم والسمرة ودمغة السجود على الجبين الصلب.
تقتل البحار والصيادين والاسماك وبواخر التموين،
تقتل سيارات الاسعاف والاطفاء والجرافات وآليات البذار والتعشيب،
تقتل الهواتف وهتاف طلب النجدة او لهفة الاطمئنان الى سلامة الاحبة.
تقتل، تقتل، تقتل، تقتل، تقتل، تقتل،
تقتل ضياء العيون ونور الشمس،
تقتل أحلام الاطفال وألعابهم،
تقتل الأجنة في الأرحام،
تقتل عشق الصبا وطمأنينة العجوز والحليب في أثداء الأمهات.
تقتل الهواء وندى الفجر والأفق المضرج بحمرة الغسق،
لكن أهل البراد يعرفون أن قانا باقية، بعدهم، وأنها الآن أعظم بقاء بهم،
أهل البراد منحوا قريتهم الصغيرة، ذات الكنيسة العظيمة القباب والفسيحة الارجاء، والقائمة بين مسجدين والساحة، تاريخا سيعيد ربطها مباشرة »بالسيد« الذي أراد القتلة ذاتهم ان يقتلوه فكان الصليب وبعده القيامة.
أهل البراد حملوا قانا الى أربع رياح الأرض فملأوا بها الأرض، صارت قانا باتساع الكون، انفلش دمها على القارات جميعا فأضاء كل بيت دخله باسمها المبارك.
أهل البراد سلاما في يومكم الثامن، ومع كل شمس.
أهل البراد… ما أكثر ذريتكم، حقا ان الشهداء.. ولادون!

Exit mobile version