طلال سلمان

أهلاً بالأخوة العرب… ليطمئنوا بنا على أحوالهم

.. وأخيراً جاء الإخوة العرب، فمرحباً بهم وقد جاءوا ليطمئنوا على أحوالهم في بلدانهم من خلال لبنانهم الذي كان صغيرهم فصار بمقاومته المجيدة “أكبرهم”، وكان ضعيفهم فصار عنواناً لقدرتهم المغلولة بالانكسار، وكان مصيفهم ومنتجعهم للراحة ومقهاهم وملهاهم، ناديهم الثقافي وشارعهم الوطني ومشفاهم وجريدة الصباح وشاشة الأمسيات، فصار جديراً بأن يكون رائدهم وقدوتهم في كسر جبروت الاحتلال الإسرائيلي وجيشه الذي لا يقهر، والتصدي لمحاولة الإذلال بالفرض التي تعتمدها الإدارة الأميركية لتنفيذ مشروعها الذي يلغي العرب دولاً وشعوباً، ويمسح ذكرهم في مستقبل “الشرق الأوسط الجديد”.

… وأخيراً جاء الإخوة العرب: بعد ستة وعشرين يوماً من الحرب الإسرائيلية التي هدفها المعلن “إعادة لبنان ثلاثين بل خمسين سنة إلى الوراء”… ومن أجل تحقيق هذا الهدف النبيل شن الطيران الحربي الإسرائيلي، بطائراته الأميركية الجبارة، خمسة آلاف غارة على لبنان الصغير بمساحته، فدمّرت بصواريخها “الذكية” أكثر من خمسة آلاف بيت في الجنوب الذي صار عنواناً للعزة، وفي بيروت الأميرة وضاحيتها النوارة، وفي البقاع المنسي بفقره، وفي الشمال المقهور بإهماله، وفي الجبل قلب لبنان وفي الساحل الذي أُحرق مرتين، بالغارات كما بالتلوث الذي جعل “البحر الأبيض المتوسط” أسود كالنوايا الإسرائيلية…

… وأخيراً جاء الإخوة العرب: جواً وعبر محطات محددة، وبالإذن الإسرائيلي ولو بشفاعة الإدارة الأميركية، ولولا ذلك ما وصلوا… فمطار رفيق الحريري الدولي في بيروت مدمّر المدارج ومحظور استخدامه إلا لطائرات الإغاثة، ومطار رياق المنسي غارق في صمته منذ دهور شأنه شأن مطار القليعات، ومع ذلك دمّرت إسرائيل مدرجاتهما تحوطاً… ثم إن غارات العدو قد استهدفت الجسور ـ الأوردة التي تربط أنحاء البلاد ببعضها البعض وببيروت فدمّرت أكثر من 150 جسراً، لتفصل اليد عن الذراع والصدر عن القلب.

… وأخيراً جاء الإخوة العرب، فأهلاً بهم. لن نلومهم على تأخير رحلتهم اليتيمة هذه التي طال شوقنا إليها، لم يعيشوا معنا موتنا احتراقاً بالنار الإسرائيلية. لم يعيشوا معنا خوفنا قبل أن نتجاوزه بإرادة الصمود وعشق الحياة. لم يعيشوا معنا اكتشافنا لقدراتنا المعنوية الهائلة التي تبيّن أنها تتجاوز مجموع قدراتهم.

لم يعيشوا معنا اعتزازنا بأننا نفتديهم، حيثما كانوا في المشرق أو في المغرب، بأطفالنا وشبابنا وأهلنا وبيوتنا… بيومنا وغدنا. لم يعيشوا معنا بؤس الاقتلاع من الدور الجميلة التي بنيناها بالعرق والدموع، ثم جددنا بناءها مرة ومرتين وثلاثاً، وزدنا أحواض الورد والياسمين والفل والحبق من حولها لنؤكد توحّدنا مع أرضنا التي لم تخذلنا ولم نخذلها ولم ولن نتركها للشيطان. لم يعيشوا معنا تعاسة اللجوء وتكدّس العائلات ذات الإباء في المدارس والمنتديات الخاصة أو في ضيافة الأهل الذين فتحوا قلوبهم قبل بيوتهم في الجهات الأربع، واحتضنوا الوافدين الذين خلفوا وراءهم رجالهم يذودون عن الوطن بكل أهله وضيوفه والمقيمين فيه. لم يعيشوا معنا ازدحام الأسر العديدة في الملجأ الذي لا يحمي، ولا وجع افتراق الأم عن أطفالها والأب عن عائلته في أرخبيل من الجزر المقطّعة الأوصال: مَن في بيروت وكأنه في قارة بعيدة عن ضاحيتها بمئات الأميال، ومَن في صيدا تفصله عشرات الغارات عن صور، ومَن في بعلبك تفصله عن زحلة محيطات من الأشلاء والمصانع المحطمة والمؤسسات المدمرة إلخ…

… وأخيراً جاء الإخوة العرب فأهلاً بهم وسهلاً: لقد وصلوا متأخرين، كالعادة، وبعد خراب… لبنان، ومع ذلك نرحب بهم أجمل ترحيب، لعل صمودنا يكون بعض طريقهم إلى غد أفضل، لهم قبلنا ومعنا.

فلتعبر مواكبهم المحروسة جيداً جراحنا على امتداد طريقهم القصيرة والحافلة بأساطير الصمود بين المطار وسرايات الحكم.

لن نطالبهم، لشدة حرصنا على حياتهم، بأن يجعلوا لقاءهم في قانا (الثانية)، مثلاً، أو في بنت جبيل، أو في النبطية، أو في صور، أو في بعلبك، أو في شتورة الشهيرة، أو في جارة الوادي ـ زحلة… فنحن نريدهم أحياء، أصحاء، عقلاء، ولا نريدهم شهداء. الشهادة علينا.

نعرف أن معظمهم أتى كارهاً أو مكرهاً، مع ذلك نرحب بهم جميعاً. ونعرف أنهم حصلوا من إسرائيل على ضمانات السلامة التي لا تتوفر لنا، لا اليوم ولا غداً، ولا بعد غد، لا سيما مع استمرار غيابهم عن موقعهم الطبيعي. نتمنى أن ينفعنا المُصالِح لوحده بصلحه المنفرد، وأن ينفعنا اللائم والمقرّع والمعترض بصلحه غير المعلن مع العدو.

نعرف أن بعضهم يغالب خوفه بخجله، ويلعن لبنان والمقاومة والصمود و”حزب الله” الذي لا همّ له إلا إفساد متعة عيشهم… وأن بينهم مَن يلوم إسرائيل لأنها بعد 25 يوماً لم تستطع أن ترتاح فتريحهم معها.

… وأخيراً جاء الإخوة العرب، فأهلاً بهم. نقدّر لهم تجشمهم عناء القدوم إلى بلاد الشهادة والمواجهة المفتوحة. ونقدّر ما سوف نسمعه من كلمات التعاطف التي لا ترقى إلى التأييد السياسي الجدي، وكلمات الشجب والإدانة التي سيوجهونها اعتراضاً على “العدوان الغاشم”.

إن لبنان المعتز بصموده، ولا فخر، المشرّف بمقاومته المجيدة من دون تباهٍ، المقدّسة أرضه بدماء الشهداء التي فاضت في حمايتها حتى كادت تصير طوفاناً، الثابت على إيمانه بعروبته ثبات جباله التي من بطنها خرج المجاهدون أفواجاً أفواجاً فدكوا العدو دكاً، وتصيّدوا جنده، ودمّروا دباباته، وردوا على غاراته فأصلوا مدنه وحواضره وقراه بنارهم ليذيقوه بعض ما يذيقنا، وما تراجعوا ولا هجروا مواقعهم وما بدلوا تبديلاً.

إن لبنان المجد يستقبلهم بصدق إخوته، لا يتباهى عليهم ولا يزدهي بنصره، ولا يريد إحراجهم بأن يساندوه أو يدعموه بعسكرهم.

إنه لن يحرجهم بمطلب يعرف سلفاً أنهم لا يملكون أن يلبّوه.

إنه يريدهم خلف مطالبه المتواضعة جداً، والمحقة جداً، ممثلة بالنقاط السبع، التي قبلها معظم الغرب قبلهم، والتي ارتضاها اللبنانيون مكرهين لافتقادهم المعين والنصير.

إنه يريدهم في المواجهة “السلمية”، السياسية، الدبلوماسية، مع الاعتداء الدولي الجديد ممثلاً بمشروع القرار الفرنسي الأميركي الذي يهدف إلى منح إسرائيل نصراً سياسياً لم تستطع أن تحققه في الميدان.

إنه يريدهم مع ـ نقاطه السبع ـ لرد الغارة الأميركية ـ الفرنسية التي يحضّر لشنها عليه باسم الشرعية الدولية…
ويريد قمة عربية سريعة من أجلهم لا من أجله… من أجل كرامة ملوكهم ورؤسائهم وسلاطينهم وأمرائهم التي تواجه امتحاناً بالدم إن هي فشلت فيه فلن تقوم لأي منهم قائمة.

ففي مشروع الشرق الأوسط الجديد لا مكان لهم ولا مكانة،

والعنوان الأولي لهذا المشروع التدميري الشامل هو مشروع القرار الأميركي الفرنسي… فمن كان معنا في صده فهو منا ونحن منه، أما من خاف فانهار فلا نحتاجه ولا نريده معنا.

إيها العرب: هذا لبنانكم، فأنقذوا أنفسكم به حتى لا يصيبكم فيه ما أصابكم في فلسطين المنسية أو في العراق الذي يتفتت ويذوب أمام عيونكم وأنتم عنه وعنها غافلون!

نشرت في “السفير” 7 آب 2006

Exit mobile version