طلال سلمان

أنهار

عادت من عاصمة النمسا حيث تعمل منذ سنوات. رحبت بها ليس فقط لأنها غابت طويلا ولكن أيضا لأنني أحب الاستماع إلى حكايات فيينا، إحدى المدن التي تصدرت دائما قوائم أفضل المدن في نظري. أحب ميادينها وإن قليلة وشوارعها الأنيقة وأهلها بوجوههم التي يكاد احمرارها يقطر صحة وأدبا وخفة ظل أحيانا. بادرتها بسؤال عما يكون قد استجد على شواطئ الدانوب. أطرقت خجلا. هي لم تصطحب أولادها أو صديقاتها إلى شاطئ من شواطئ الدانوب منذ أكثر من عامين. سوف أغفر لها ما ارتكبت من ذنب عظيم.

عشت في فيينا أياما كثيرة ولكن معدودة. قضيت أكثرها، إن سطعت شمسها، على شاطئ من شواطئ النهر الخلاب، أشاطر أصدقاء أو أطفالا أو مزيجا منهم متعة تناول الدجاج وأصابع البطاطس المقلية مع المشروبات المناسبة. ما زلت بعد عقود عديدة من البعاد وفي كل مرة ترد سيرة الدانوب أو الفالس أشم رائحة النجيل مختلطة بفوح زهور كانت تحملهما نسمة تهب من النهر، رائحة لم أشمها جالسا أو مستلقيا على شاطئ أي نهر آخر في القارات الخمس.


سكنت في عاصمة الأرجنتين في شقة بعمارة تطل على نهر لا ترى له ضفة أخرى. كنت وأنا مراهق متلهفا على معرفة تفاصيل المواقع الكبرى في الحرب العالمية الثانية سمعت عن العلمين كواحدة من أهم معارك البر وعن لابلاتا كواحدة من أهم معارك البحر. شاء القدر أن أسمع بعض تفاصيل معركة العلمين من شخص كان مراسلا حربيا لصحيفة إنجليزية تصدر في القاهرة واستمر يراسل الجنرال مونتجمري بل واستضافه بعد مرور حوالي ثلاثين عاما على انتهاء المعركة. أقصد طبعا الصحافي القدير هيكل. شاء القدر نفسه، على ما أظن، أن أعيش على ضفة النهر الذي جرت فيه معركة لابلاتا الشهيرة. عشت على ضفته الغربية أو قريبا منها ما يقرب من أربع سنوات. كنت قد سمعت من معارف وأقارب وقرأت قبل وصولي إلى الأرجنتين الكثير عن عرض هذا النهر العملاق ومع ذلك وقع الانبهار. دعيت يوم وصولي العاصمة الأرجنتينية لتناول الغداء على شاطئ النهر. مشيت في الشارع أنظر إلى يساري حيث نهر بضفة واحدة هي الضفة التي أمشي فوقها. لا أرى ضفة أخرى. أنظر تحت قدمي متخيلا جيوش الإسبان وأفواج المهاجرين الذين نزلوا إلى هذه الأرض بهدف التقاط وجمع الفضة التي تنتظرهم فوق رمال الشاطئ، حتى أطلقوا على النهر اسم نهر الفضة، ريو دي لابلاتا. أنظر إلى يميني فأجد مطاعم تقدم لحوم الشواء إلى المتنزهين. المطاعم بأرقام وليس بأسماء. كنا بأول الشاطئ فكان المطعم الأقرب لنا يحمل رقم المائة، هو الأول، أو الأخير. سألت المضيفين عن المطعم الذي يفضلون فقالوا هو المطعم الذي نكون بجانبه لحظة الشعور بالتعب من التمشية على الشاطئ. لا يختلف مطعم عن الأخر إلا في ابتسامات النادلين والنادلات.

جلسنا ونظرت بعيدا. هناك في المياه البعيدة وقرب مونتيفيديو عاصمة أوروجواي نشبت أولى معارك ما سمي بحرب الأطلسي التي استمرت على امتداد الحرب العالمية. طرفاها مدمرة ألمانية شهيرة وبارجتان بريطانيتان.
بعد ثلاث سنوات عدت إلى هذا المكان، وليس أي مكان وكنت أنا المضيف وضيفي السباح المصري أبو هيف.
كنا عائدين للتو من نصر مبين للسباح المصري في مياه نهر البارانا، النهر الأطول في أمريكا اللاتينية بعد الأمازون. هو النهر الذي يمد نهر لابلاتا بالمياه العذبة لتبقى فوق السطح وتحتها المياه المالحة التي يمده بها المحيط وتبقى بسبب كثافتها غاطسة في النهر العظيم. كانت رحلتي مع أبو هيف من رحلات العمر التي تتحدى النسيان أو الإهمال، نصعد إلى قلب القارة مع أوسع أنهار العالم لندخل إلى أحد أطول أنهار العالم، نهر البارانا، متحدرا من منابعه وروافده في البرازيل والأرجنتين وباراجواي وبوليفيا وأورجواي. هناك قرب سانتافيه أشهر مدن القمح في العالم خرج أبو هيف من مياه النهر العظيم، نهر البارانا، منتصرا ليحمله آلاف ويدوروا به في عربات حنطور تطوف شوارع المدينة في انتظار حفل شواء ورقص بالميدان الرئيسي يستمر حتى الفجر.


الأنهار عظيمة الاتساع تفرض الهيبة أو تثير نوازع العنف. قارنوا كما قارنت بين ما توحي به هذه الأنهار في نفوسكم عند اقترابكم منها وما يمكن أن توحي به الأنهار الضيقة مثل نهر الأردن. هذا النهر الصغير أثبت وجودا لم يسجل التاريخ مثيلا له لأنهار عملاقة مثل لابلاتا أو الأمازون. كنا في رحلة علمية قرب البحر الميت تحولت إلى رحلة تأملات في الدين والطهارة وسمو المشاعر. تذكرت وأنا هناك أنهارا صغيرة أخرى لا تصدق أنها لعبت في التاريخ أدوارا ونقلت رسالات وينطق باسمها مصلون ورهبان طول الأيام. يؤلمني طبعا منظر نهر بيروت بطول يقل عن الثلاثين كيلومتر وقد صار مرقدا للنفايات التي يلقي بها أغنياء لبنان، أحدهم وأعرفه جيدا يستطيع وحده وبنسبة بسيطة من ثروته إعادة المياه إلى هذا النهر الصغير وفروعه الضئيلة، فإن فعل فستكون الإشارة للآخرين أن انهضوا لتعيدوا إلى لبنان عرشه وفرحته ورسالته.


ليست كل الأنهار الصغيرة جميلة، هذا على الأقل ما توصلت إليه من معرفة متجددة بكثير من الأنهار الصغيرة التي قابلتني. الحاصباني في جنوب لبنان ليس جميلا ولا نهر برَدى في دمشق ولا الأردن ولكل منها تاريخ مقدس لا ينكره دين ولا تاريخ. لا أعرف كم نهر صغير اندثر خلال مسيرة أمة من الأمم وبخاصة تلك الأمم التي تعيش على حواف صحراواتها الزاحفة أو على ضفاف بحار ومحيطات ارتفعت مناسيب المياه فيها.
كذلك، ليست كل الأنهار العملاقة جميلة. نهر اللؤلؤ الذي ينتهي عند مدينة كانتون في أقصى جنوب الصين وقرب هونج كونج لم يكن نهرا جميلا عندما رأيته لأول مرة، لم يكن جميلا بالنهار ولا يطاق بالليل لصخب موسيقاه وصفافير بواخره العملاقة مثله والعبارات ناقلة البشر والحيوانات والسيارات.

نهر عملاق آخر لا أحبه ولم أقترب منه. أسمع عنه. فيضاناته كثيرة ومدمرة ولكنه ككل الأنهار الواسعة مصباتها لا يترك لخيال الإنسان وعواطفه وحبه للطبيعة ما يرضيها ويهنيها. اليانجتسي والنهر الأصفر ونهر اللؤلؤ في الصين نماذج لأنهار عملاقة ولكن عدوانية أو غاضبة. التيمس المخترق العاصمة البريطانية لم يرق لي في أي زيارة ومع أي صحبة. أعرف أنني أغضب كثيرين يعشقون السين حين أقول إن النهر المسكين والشهير لم يلمس شغاف قلبي لا في نهار باريس الممتع ولا في ليلها المتلألئ بالنور.


مسكين أيضا نهر بو الذي يشق إقليم بيدمونت في شمال إيطاليا. النهر وأنا لم نرتح الواحد للآخر. معذور على كل حال فالبحيرتان الأعظم في إيطاليا جاردا وكومو جمعتا فيما بينهما نصف جمال الطبيعة في شمال إيطاليا. لم يقو النهر المسكين وسهوله على المنافسة. بعيدا وفي وسط إيطاليا وبالتحديد في العاصمة روما يجري نهر تيفيري. أظن أن هذا النهر لو كان في مكان آخر لما استحق أي انتباه كبير. يحمل التيفيري شهادات موثقة تثبت أصوله الراقية جدا، أصول تعود إلى أيام ما قبل إمبراطورية روما. يحمل ما يؤكد أنه من صلب شجرة الآلهة. هو في الأسطورة فرع من فروع الشجرة وإله من آلهة روما. هناك على ضفافه الشرقية جاء قوم ليبنوا روما. عرفوه في التاريخ باسم فلافوس، أي الأشقر نسبة إلى لون الطمي الذي اشتهر بحمله من منابعه. يذكر لموسوليني الفضل في اللوحة الرخامية المنصوبة في تل قريبة من روما كتب عليها “هنا يولد النهر المقدس ليجد طريقه إلى قدره في روما”. أسطورة أخرى تمجد النهر المتواضع في جماله ولكن المقدس في أصوله فتقول أن الطفلين رومولوس وريموس تركا فوق جزيرة وسط هذا النهر لتنقذهما الذئبة لوبا وتقودهما ليعبرا النهر ويشيدا مدينة روما. أرى من واجبي أن أنبه إلى أن التيفيري وغيره من أنهار أوروبا وآسيا وأفريقيا المنحدرة من نسل الآلهة حسب الأساطير يشار إليها باعتبارها من الذكور. لم يأت في الأساطير أن نهرا كان من إناث آلهة الإغريق أو الرومان أو الهندوس أو الفراعنة. الأنهار لعلمكم “هم” في جميع الأساطير ذكور.


وصلت إلى الحد الذي لا يجوز تجاوزه في مقالات هذه الصفحة. وصلت إلى الحد ولم أسرد انطباعاتي عن النيل، أحد الأنهار الخالدة في عالمنا وسليل الشجرة المقدسة التي أخرجت للتاريخ حسب الأسطورة آلهة من كل نوع. انطباعاتي عنه وعما فعله بي أنا شخصيا وفعلناه به تحتاج لأكثر من سطور في مقال.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version