طلال سلمان

أنا متهم

تقابلنا لأول مرة قبل عقود لا أذكر عددها. أظن أنها، أقصد زميلتي، قرأت لي منذ ذلك الحين ربما أكثر ما كتبت. سمعتني أتدخل في نقاشات كثيرة علمية وفي أكثر منها بعيد عن العلم. جمعتنا ظروف عمل مع أجانب، اختلفنا واتفقنا وفي النهاية تأكدنا أن لكل منا أسلوبه في التعامل مع الغرباء كما مع غير الغرباء، ولكل منا عقيدته وبصمته وأولوياته. كانت، مثل غيرها من المتابعات والمتابعين، تعتقد جازمة أن في شخصيتي وتصرفاتي غموضا يجدر بي أن أروضه ولو قليلا.

لا أعد بشيء. حاولت في مراحل عمرية مبكرة وفي ظروف متباينة وفشلت. اكتشفت خلال المحاولات الكثيرة أن وراء تعنت الغموض والتصاقه بأنماط سلوكي ماض طويل. أهلي علموني، وهم أكثر من أمي وأبي، حفظ السر. كنت طفلا أتنقل من حجر خالة إلى حجر خالة أخرى إلى حجر جدتي إلى حجر أمي وكلهن مشتبكات في حديث تلو حديث عن الجارات والعمات، وبين الحديث والآخر ينتبهن إلى وجودي فتبدأ الواحدة بعد الأخرى في التنبيه بأن أحفظ السر. لا أردد ما سمعت أمام الخادمات والمعلمة الخصوصية والجارات والضيوف وأطفال الروضة. أنا ابن الثالثة أو الرابعة ألتزم بكتمان معلومات لم يرق أو يتدن إلى مستواها مستوى فهمي ونضجي. لكنه التزام وقد كان.

كبرت واتسعت عندي مساحة الفهم كما اتسعت عند أهل البيت المساحة الممكنة لاستقبال معلومات أشد خصوصية بعضها يكاد يتلامس مع النميمة. أدركوا، وأقصد الأهل ومجتمعات الصبحيات حول فناجين القهوة والسبرتاية، أدركوا أنني كبرت فتغيرت اللهجة عند تجديد التنبيه. سبقتني إلى هذه الاجتماعات وغيرها سمعتي في حفظ السر والتكتم على ما نمى إلى سمعي. راح الوالد يصطحبني معه بعض العصريات إلى المقهي  الكائن في الميدان الرئيس للحي الذي نعيش فيه. هناك كنت أسمع بالرضا تطمينات أبي المتكررة خلال نفس الجلسة وفي وجود نفس المجموعة، أسمعه يردد عبارة  ابني أمين وكتوم ويحفظ السر.

كبرت في العمر، وكبر معي حجم المعلومات المتدفقة ناحيتي من كل صوب. صرت أشعر بثقل الحمل والمسئولية. رحت أبحث عن تبعات هذا السلوك. قرأت بين ما قرأت أن حفظ السر نوع من الخيانة، فنحن عندما نخفي أشياء، نتعتم عليها أو نتكتم فإننا في الحقيقة نحرم أصدقاء حميمين ومخلصين من ممارسة حق معرفة هذه الأشياء والمعلومات. أحرمهم، يعني أخون عهود محبتنا وصداقتنا فهي معلومات إما تخصهم أو يعنيهم أمرها بشكل أو بآخر وربما كانوا استفادوا لو أطلعتهم عليها في وقت مبكر. اتهمني من بينهم من تصور للحظة أنني تعمدت إخفاء المعلومة عنه ليشقى ويتعذب. أنا خنت الشخص الذي أحب حين تحفظت في داخلي على سر أو فرضت سحابة من الغموض حول معلومة.

علمونا في الصغر ألا نكذب. علمونا أيضا أن نكون صرحاء وأن لا نخفي عن أهالينا ما نفعل وما نراه وما نشعر به تجاه الغير. ولكن أليس حفظ الأسرار نوعا من الكذب أو درجة من درجاته. في مجتمعنا يكذب الطفل والكبير أيضا عند المواجهة خشية عقاب أو آخر. وبالفعل يقال أن في دولة القانون مجرد توفر النية لارتكاب جريمة يخضع صاحبها للعقوبة. النية كما نعرف سر وبالتالي فالمحافظة على النية في شكل سر وكتمانه تصبح في نظر القانون محل عقاب.

لم أعرف حين تعلمت التزام الكتمان أن الحب في حقيقته وجوهره هو علاقة بين سر والاعتراف بهذا السر. الحب في بدايته يعتمد في كثير من الحالات على الكتمان وحفظ السر، أي على درجة ليست بسيطة من الغموض. سمه، إن شئت، الغموض البناء، التعبير الذي يفضله السياسيون على اختلاف مشاربهم وأخلاقهم. ولكن في الحب لا بد عند مرحلة من مراحل نموه الانتقال من حفظ السر إلى الاعتراف به بالإعلان أو بغيره من وسائل الإبلاغ.

بمعنى آخر يصير الاعتراف في مرتبة التكفير عن ذنب ارتكاب الكذب.  كم من جدل أثاره هذا الاعتراف. هو دليل حب أم دليل خيانة. أليس مجرد الكشف عن سر هو من أحلى وأعظم الأسرار تماما كالكشف عن خبيئة من خبايا النفس، يعني أن النفس بعد هذا الاعتراف صارت بلا حقيقة كانت تملكها وحدها لا يشاركها فيها أحد. هي تبنتها أو خلقتها ورعتها حتى شبت حبا يافعا ورائعا. يوم الاعتراف يعود الإنسان مكشوفا أمام الأغيار بلا درع يحميه ويزيده ثقة يعيش بدون غطاء يدفئه في شتاء العمر القارس. سمعت أحدهم يقول “كنت قويا وهي تنمو في داخلي وأنا الآن وبعد الإعلان أصبحت أضعف. أعرف هذا وأشعر به يؤثر بالسلب في مجمل تصرفاتي وعلى صورتي”.

في السياسة يكذبون كثيرا. يكذبون على المرؤوسين وبالعكس. يكذبون على الشعب، ولا أتجنى حين أقول أنني عشت تجارب غلب كذب الشارع على كذب الإعلام والمسئولين. عشتها في الأرجنتين وفي شيلي وفي إيطاليا. كنت أعرف رئيس حزب اشتمل برنامجه الانتخابي على وعود بأنه إذا فاز في الانتخابات فسوف يسمح  للشعب بأن يكذب في وثيقة الضرائب وفاتورة استهلاك الكهرباء. وبالفعل فاز في الانتخابات بأغلبية ساحقة. رحمه الله على كل حال.

عشت في دول حكوماتها تخاف أن يعتاد الناس على حفظ الأسرار، وبعضها لا يتورع عن فعل أي شيء لكشف أسرار مواطن. سمعت من دبلوماسي سبقني إلى الهند أنهم هناك يقرأون أسرارك من أوراق الشاي التي تتركها في فنجان دعيت لشربه في بيت سياسي كبير أو شربته في بيتك وتكفل بقراءته أحد العاملين المدربين على فك طلاسم أوراق الشاي. أورويل في روايته الشهيرة بعنوان 1984 كتب عن المواطن الخائن الذي ضبط يكتم سرا.

للجيران في بعض الثقافات تجاربهم وأساليبهم في التعامل مع مسألة هتك الأسرار. عشت في عمارة تمتد في صالونات شققها شبكات المياه الساخنة للتدفئة. علمت بعد رحيلي أن الجيران في شقق الطوابق السفلي كانوا يتجمعون كل ليلة حول فروع الشبكة في شقة من شقق العمارة ليستمعوا جماعة إلى الأحاديث الحميمة التي كانت تدور بين شاب وعروسه شاء حظهما أن يقضيا شهر العسل في شقة بهذه العمارة وآذان الجيران ملتصقة بأنابيب المياه الساخنة التي كانت تنقل أسرار العروسين لحظة بلحظة.

كم من المرات كاد الفضول يخنقني وأنا أتابع عصفورين فوق غصن شجرة يتناجيان. كم تمنيت أن أعرف إن كان الحب بينهما ما يزال لم يدخل طور اعتراف أحدهما بالسر الذي أخفاه طويلا. أم أن الأمر بينهما لم يتجاوز علاقة صداقة. الطيور في عوالمها أسرار وإلا ما كانت العشش المخفية بعناية في قلوب الأشجار بعيدة عن عيون الرقباء والأشرار وما كانت التغريدات الرائعة المتبادلة بين الأحبة وما كانت الرحلات الموسمية المخطط لها بذكاء سعيا وراء طقس أدفأ وفرصا أكثر لتربية النشئ وتدريبهم.

عشت عمري أصون أكثر أسراري، غير نادم على ما أخفيت. أما ما أعلنت عنه أو اعترفت به لحظة ضعف فحنيني له لا يعرف حدودا.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version