طلال سلمان

ألقاب ما بعد الإحتفال

البهو فسيح، يتسع للدول جميعاً، مهما كانت أحجامها، وبغض النظر عن مواقفها. الحساب خارج برنامج المهرجان. المهم ألا تغيب أي دولة، فالغياب جلاب القلق، اما الحضور ولو ظل شكليا فمصدر اطمئنان.
البهو فسيح، يتسع للالقاب جميعا: اصحاب الفخامة والدولة والسيادة والسماحة والمعالي والسعادة، وبالذات السعادة…
ألست ترى الابتسامات البلاستيكية تضيء فضاء البهو بأكثر مما تضيئه فلاشات المصورين، رسميين واهليين، لوسائل الإعلام كلها، مرئية ومطبوعة، ومعها ايضا اجهزة الأمن، على اختلافها؟!
البهو فسيح وأنيق ومجنَّح، لا يدخله إلا مَن يحمل الإذن مكتوبا، وعليه اسمه، فيفتح له الحرس الحواجز، ويوصله موظفو التشريفات إلى مقعده في الاحتفال المهيب الذي ترفرف فوقه الملائكة بإمارات الإيمان.
البهو فسيح والألقاب شتى، والأزياء كرنفال تحتشد فيه فتتلاءم او تتنافر ألوان قوس قزح: عمائم بيضاء، قلنسوات حمراء، طاقيات سوداء، قبعات رمادية، عباءات يشق الاحمر فيها قلب السواد، او تبرز من تحت الطيات السوداء ياقات بيضاء، ولحى من كل الاحجام: بعضها مشذَّب والبعض الآخر مرسَل.
كلهم يلبسون ألقابهم ومناصبهم الآن.
والعسكر يدرجون طواويس بأوسمتهم وقد رُِتبت صفوفاً كما الجيوش عندما ينبهها النفير.
كلهم جاءوا إلى هنا متعجلين ليستقيم نصاب السلطة.
الخدم وحدهم كانوا حقيقيين: لباسهم هو اللباس، اسماؤهم هي الاسماء ومهنتهم هي المهنة.
بعد ساعة او ساعتين سيكون البهو الفسيح فارغاً بكليته، نظيفاً من السلطة، وإن عجّ بمخلفات الوليمة.
وفي البيوت، عندما سيخلعون الالقاب والثياب، ستتوقف اللعبة، ولن يبقى إلا ذلك الجندي البائس تحت المطر يدلك الى حيث يقام الاحتفال بتنصيب الدولة، ثم يرشدك إلى طريق الخروج منها.
صاحب الفخامة يدور متفقداً اصحابه،
صاحب الدولة يدور عارضاً بضاعته في المزاد،
صاحب المعالي يعاني مشكلة النزول إلى »الأرض«،
صاحب السعادة يبحث عمن يقرضه ابتسامة،
وصاحب الغبطة يكاد يغبط اولئك الذين لا يرتدون ثوبه،
اما صاحب السماحة فيكاد صدره يتفجر غيظاً لان ثوبه يعرقل تقدمه إلى الأعلى!
أين صاحبي، صاحب الناس وسط هذا الحشد المتنكر بألقابه؟!
كأنها »لعبة بيت بيوت«… حين يختار كل طفل دوره، ويلعبه باذلاً جهده للنجاح في ادائه. يقفز مخترقاً الاهوال لنجدة صديق في مأزق، ويسرق حصانا من إسطبل الثري البخيل لكي يطير بحبيبته المضطهَدة في حبها فيردفها خلفه ويسعى بها إلى جِنان الحب والجوع الكافر.
كأنها »لعبة بيت بيوت« حيث كان كل فتى (وكل فتاة) يختار ما يرغب فيه، ثم إذا مالت الشمس إلى الغروب ران الحزن، ونزع كل دوره المستعار، وعاد إلى بيته بائساً لأنه سيكون من جديد هو نفسه.
لكن هؤلاء لم يعودوا يعرفون كيف يكونون إلا بألقابهم،
والألقاب وحدها لا تصنع دولة،
واللعبة كانت تنتهي دائماً داخل البيت،
لكن لعبتهم لا تنتهي لان ليس لهذا »البيت« داخل!.

 

مقدمات لفرح الحياة العظيم

تأخذك الحياة في شبكة دروبها المعقدة، وتغرق في تفاصيلها الممتعة وشجونها التي تبعث على السأم، فتشغلك عن نفسك وتنسى مرور الزمن، فلا تنتبه الى ما يتبدل فيك ومن حولك، مفترضا ان العمر يوم ممطوط كخط مستقيم، لا تعرجات فيه ولا انهيارات ولا ذرى او وهاد يصطنعها الفرح او الحزن فيرفعك او يخفضك اليها، فيبدلك تبديلا حتى لتكاد تنكر صورتك الاولى.
يخدِّرك الرضا عن النفس فتتجاور مع القدر حتى لتحسب ان ليس لقدرتك حدود، وان ما انت فيه هو بعض حقك، وانك حزته بجدارتك، وانك تواضعت فقبلت بالاقل، في انتظار ان يصحح الخطأ بالعدل بمفعول رجعي.
ثم تجيء الصدمات خفافا فتذهلك وتستولد فيك الاحساس بالظلم، وكأن تعاقدك مع الحياة ان تخصك بالخير كله، وان تذهب بمرارات التعاسة الى الآخرين!
***
وتدور كالسكران وما انت بسكران تشكو للسابقين الى الشقاء، والمصدومين قبلك، والذين تقبلوا ما اصابهم واستوعبوه فأعادوا صياغة علاقتهم بالحياة وأزمانها المتبدلة وتحولاتها التى جعلها التوقع المفتوح قاعدة طبيعية لا يقع الخروج عليها الا بخلل في التوقيت.
… تدور كالسكران، انت الذي تعديت مرحلة السكر، بأنواعه العديدة، تسأل نفسك ألف مرة في الدقيقة الاسئلة التي تعرف يقينا انك لا تملك لها جوابا الا من داخل تسليمك بمنطق الحياة وخطأ التوهم ان لها وجها واحدا هو ما عرفت منها وألفت فارتضيته.
تسير متعثراً بالاسئلة، وترى رؤوس العابرين الذين تصدمهم او يصدمونك وكأنها علامات استفهام معلقة في الفضاء. وتكاد تستغرب ان تلمح ابتسامة على وجه، او ان تسمع صدى ضحكة قصيرة تطلقها فتاة داعبها فتى بعبارة غزل طيارة، او ان يهتف بك سائق غاضب ان »افتح عينيك يا أعمى«!
الاسئلة تستدعي الوحدة فتحف بك، تحاصرك وتسمم عواطفك فتتحول تدريجيا الى عدائية مرعبة تجاه الآخرين: لماذا من دون الخلق، نحن بالذات؟!
تنتبه متأخرا الى ان الوجه الثاني والبشع لهذا السؤال: لكأنك تريد بالآخرين، كل الآخرين، شرا؟! لكأنك تفترض انهم يستحقون ما لا ترضاه لنفسك؟!
الكراهية لا تشفي، والتمني الكسيح بأن يذهب الشر الى غيرك وبأن تبقى آمنا مطمئنا لا ينفع الا في زيادة الضيق والعجز عن مواجهة الصعب.
… وتهل عليك من بعيد ابتسامتها المعتذرة، فتخجل من ضعفك، وتنفض رأسك بسرعة كأنما لتطرد منه ما راودك من تهويمات شريرة لا تعني شيئا آخر غير الضعف وغير الاستسلام المهين امام الصعب الذي تحفل به الحياة والذي في كثير من الحالات يعطيها ويعطيك المعنى.
تهرب منك الكلمات بينما عيناها تتغلغلان في ثنايا ضميرها، تفحصانه لتفقد موقعها فيه، باعتباره المنبت والمهجع والضوء الهادي. تحضنها كأنما لتدرأ عنها ما اطلقته من سهام عشوائية بذريعة الدفاع عن الذات.
ينعشك الحب، يرفع الغشاوة عن قلبك وعن عينيك. تستعيد نظافتك فتحس انك اقوى، وأنك تستطيع ان تعوضها بعض ما اعطتك.
تفكر: »لك ذوب القلب«! ماذا يعني الكلام؟! »لك العمر«؟! ما ابأس مهمة الكلمات في اعلان ما يفيض عن طاقة الكلمات على الحمل والاحتمال؟
سيقول لها… لن يستطيع ان يعنى بالصياغة. سيطلق صمته ليقول.
ويرى في عينيها التماعة تلك الابتسامة التي طالما امدته بالأمل فيعرف انها انما تبلغه ان الرسالة قد وصلت، ثم تأخذ بيده لتقول: خذني الى البيت.
في طريق العودة، وتحت خيمة الحنان، تستعيد وجوه العابرين ملامحها الاصلية حيث تتجاور الابتسامات والتجهم، الاحزان والمعابثات، الانوار والظلال والمساحات المعتمة.
وشيئا فشيئا يستعيد الاحساس بالدفء من »شبابه« الذي يقتحم الحياة وهو يعرفها الآن وبالمواجهة لا بالنقل افضل مما عرفها هو، او مما كان يعرفها، حين كان يتعامل مع كل من وجوهها المختلفة وكأنه البداية او النهاية، ثم يكتشف ان البداية كانت قبله بدهور وأنه لن يكون النهاية التي سيظل الهواة يتوغلون في لغزها ويكتبون فصولا من تلك الرواية الممتعة بأحزانها العميقة التي منها يولد فرح الحياة العظيم.

 

إميلي الماكرة وهرها الفصيح

ببساطة المتمكن من فنه كتبت اميلي نصر الله جوانب من دراما الحرب الاهلية في لبنان على لسان فصيح، برغم خرسه الابدي: هرها »زيكو«.
ولقد استفادت اميلي من خرس الهر لكي تقول لفتيتنا وصغارنا عموما، »بالرموز« والتعابير »المشفرة«، ما كانوا يعجزون عن قراءته في عيون اهلهم المسحوقين بالخوف، او الفاقدين القدرة على التمييز ورؤية الحقائق نتيجة التعصب لفريق، او الانحياز لهذه او تلك من بنادق المحاربين.
كان لا بد من الهر لتجاوز المسميات، سواء أكانت قوى دولية، أو اطرافا »إقليميين«، أو احزابا محلية، واستطراداً: طوائف او مذاهب تُنتج بلا انقطاع عصبيات جاهزة للاقتتال او للقتل المجاني.
ما أفصح مواء الهر »زيكو«،
وما أعمق تحليلات صاحبته الحنون »منى«…
وما أمكر »الطفلة« اميلي نصر الله وهي تدرج تحليلاتها البريئة على لسان الهر الفصيح، او عبر مخاوف الاطفال المحاصرين بالموت في اقبية البنايات المفتوحة الصدر بالقذائف، والمبتورة الجنبات بمدافع المقاتلين، بينما أبوابها موصدة دون نور الحياة وشوق الاحياء إلى إنسانيتهم.
على ان »زيكو« الذي نطق بقلم اميلي نصر الله لم يغفل عن تقديم نصيحة اخيرة، هي خلاصة تجربته: »إذا وقعت الحرب فاقفز من النافذة واهرب ولو إلى اقصى الأرض… اهرب من أبيك ومن أمك ومن الناس كلهم، واهرب من نفسك حتى لا تذروك الحرب رماداً«.
ولأن الحرب قد اصبحت اليوم »جرحاً بليغاً في الذاكرة«، فقد امكن لزيكو ان يستعيدها وان يرويها مستعيراً الكثير من تجاربنا جميعاً، واميلي نصر الله واحدة منا.
ولأن الراوي هو الهر »زيكو«، فإنه لم يستطع ان يميز بين المتقاتلين، ولا فهم معنى النجمة المسدسة الاضلاع على اعلام تلك الدبابات التي حاصرت بيروت واشعلت فيها الحرائق، ولكنها لم تستطع إجبارها على الركوع.

 

لماذا »فجأة« يا ريما؟!

»فجأة« استطاع احدهم ان يغري او يغوي ريما الرحباني بأن تبيع لحظاتها الحميمية داخل حرم حزنها للعامة وعابري السبيل.
»فجأة« اقدم بعضهم على ازعاج عاصي الرحباني، وإعادة تشييع رفاته مغلفة بالدموع الحارقة لابنته الرقيقة، مع ذكراه العاشرة.
»فجأة« تبرع احدهم او بعضهم بنكء الجراح وفتح المزاد وطرح اسم الرحباني، للتداول حيث لا يجوز الشيوع، ليثبت نظرية لن تضيف الى تراث هذه العائلة المبدعة، ان هي صحت، ولن تنقص منه ان ظهر بطلانها وخلاصتها: ان كل من حمل هذا الاسم »ملك عام« لأنه مدموغ بالعبقرية.
»فجأة« جاء اسم الفرح ليأخذنا الى الحزن العتيق.
لماذا الآن يا ريما؟!
ولماذا فقط عن تلك اللحظة التي لمّا نستطع مغادرتها او نسيانها؟!
أين ما قبل؟ أين ما بعد؟! أين عاصي الحي، ام انه قد سبق الشعر، ام انه كان يحبس فيك الشاعر فلما ابتعد مسافرا الى البعيد، ترك لك الشعر ليتواصل التلاقي ولا يكتمل الغياب؟!
»فجأة« مرثية، بالمحكية اللبنانية، التي يضفي عليها عقل العويط توصيفاً مباغتاً فيراها »نبيلة«، تستعيد فيها ريما رحباني التجربة الأقسى في حياتها حين مضى »عاصي« قبل »الموعد« المفترض بكثير، فلم يتسنَّ له ان يودعها بغير النظرة الخرساء وبغير الصمت الذي سيبقى واحدة من اعلى ذرى الشعر.
ريما رحباني تجدد الآن الحزن العام بالاستذكار الخاص.
لكأنها لا تزال تعيش التعاسة التي هبطت عليها فأخذت منها ومن الناس عاصي الرحباني.
لعل ريما المثقلة بواجب التعويض عمن لا يعوض قد ارجأت حديث الحب، او انها رأته غير متناسب والموت.
لكن بالحب وحده نقهر الحب، ونستعيد الأحباء الذين غابوا.
والحب هو القصيدة التي كتب بعضها عاصي وأضاف اليها زياد الكثير، جاءت »فجأة« ريما مبكرة عن موعدها، فقصرت عن الاضافة، ولم تضف الكثير الى العاطفة التي تختزن منها اكثر مما استطاعت ان تقول.

 

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لم يسألني حبيبي يوماً ان احبه أكثر. كان يعرف أن ليس بعد حبي حب، وكنت اعرف أنه لن يسأل لأن حبه يشغله بكليته. منبع السؤال الشك، والحب يقين، وسؤال الحبيب دلال مباح جوابه خارج نطاق الكلام.
تفكَّر »نسمة« لحظة ثم أضاف:
أحار في معرفة هل يحبني أكثر في صمته، أم في ثرثرته العابثة. قد يكون الحب أعمى، لكن قلب المحب في أذنه أيضاً.

Exit mobile version