طلال سلمان

أكرم زعيتر:مصير فلسطين هو مصيرنا

قبل أسابيع قليلة غاب احد وجوه العمل القومي العربي: أكرم زعيتر.
هي مرحلة تطوي أعلامها وتغيب، كانت مختلفة أشد الاختلاف عما نحن فيه، اذ كان العربي عربيا: فلا حدود بين سوريا العراق فلسطين لبنان مصر، وصولا الى اليمن شرقا والى المغرب غربا… والمناضل هنا مناضل في كل الوطن الكبير.
في ظل التجزئة والكيانية المعززتين الآن بالهرولة الى السلام الاسرائيلي، يكاد يقع الانفصال الكامل بين الانسان العربي وأرضه العربية.
تكريما لجيل الرواد ممن عملوا في ساحة النضال القومي، طلبنا من الزميل الكبير زهير عسيران ان يكتب عن رفيق عمره أكرم زعيتر، فكانت هذه العجالة ننشرها لمناسبة ذكرى الاربعين على رحيله..
»ط. س«
أكرم زعيتر مرّ كما الغمامة الخيّرة في الصحراء، وكما الأمل المشرق في عتمة اليأس. ذكرى فيها طائفة من المعاني تتيح تقييمها في المطلق. من ذلك الايمان بقضية وطنه وأمته، فأعطاها في خلال كارثة هذا القرن وعلى مدى عمره أقصى ما يمكن لمناضل مؤمن ان يعطي… اقام في عواصم وطنه، على يقين منه بان مصير الوطن الكبير هو مصير فلسطين يسلم اذا سلمت، ويتعثر ويضيع ان هي ضاعت. ذلك ان موقع فلسطين الجغرافي يجعلها صلة الوصل بين مشرق العرب ومغربهم في آسيا وأفريقيا، ولا سبيل للفصل بينهما الا بالاستيلاء عليها كأفضل موقع اختاره الاستعمار والصهيونية لتحقيق هدف مشترك في الاقطار العربية والشرق الاوسط كله.. وهذا الهدف مستمر منذ بدء الكارثة حتى الساعة التي نعيشها على وقع الهرولة نحو احضان العدو والسلم الشرق الأوسطي »الاميركي القبعة«.
من هنا ان غياب الكبار يتجاوز الحدود والابعاد الزمنية ليستقر في شرفات القيم، ويصبح امثولة وتراثا للاجيال، منهما ينهلون ويستلهمون.
لست ادري كم رفيقا لأكرم زعيتر هو في الوجود الآن… هؤلاء يعرفون اي رجل كان. ولعلّي واحد من هذه القلة، كان الاكثر التصاقا والاكثر معرفة به وبعطاءاته ومراحل جهاده وبذله اللامحدود حيثما وجد وقدر له ان يعمل. من هذه المعرفة انه بدأ معركة النضال باكرا في فلسطين فكان الابرز بين المجاهدين منذ ان رحل المفتي الاكبر الحاج امين الحسيني، فاقتحم الساح مناضلا عنيدا لا يهاب، الى ان غادر بلده مشردا بين أقطار العروبة مستأنفا جهاده حيثما وجد، عقلا وقلما لا يرتاحان.
لقد عرفته معاهد القدس ونابلس في فجر شبابه مدرسا، فاذا ذكرت بريطانيا أمام الطلاب يقول: »تعلموا ان هذه الدولة هي البلاء والشر المطلقان، تذكروا ان هذه الدولة باغية غادرة، فقد غدرت بالعرب في الحرب العالمية الاولى، وفي الثانية غدرت بهم وبفلسطين. لقد خدعت العرب عامدة حين كانت تؤكد لهم احترامها عروبة فلسطين واستقلالها بعد نهاية الحرب. تعلموا واحفظوا انتم جيل المستقبل ان بريطانيا هي مصدر ما نحن فيه من عذاب وبلاء، هي التي فتحت باب الهجرة امام يهود الارض، وكأنها ليست وطنا لشعبها وهوية.
كان الدرس للتوعية وبمثابة محاضرة، وكان صرخة من القلب، فينقطع التدريس ويندفع الطلاب من الابواب والنوافذ في تظاهرة صاخبة تهتف بسقوط بريطانيا والصهيونية ويختل الامن والنظام ويتدخل جيش الاحتلال، وعلى اثرها منع من التدريس وأبعد عن الطلاب الى السجون والمعتقلات..
بعد انتهائه من دراسته وتخرجه، نشبت ثورة 1929 فتفرغ للعمل والنضال وأسس مع رفاقه سرايا جهادية لعبت دوراً مهماً في إيقاظ النضال الوطني ثم أشرف على تشكيل »اللجان القومية« وتولى أمانة سر لجنة نابلس، وتلاقت هذه اللجان والحركات جميعا على اعلان الاضراب التاريخي الشامل في فلسطين الذي دام نحو ستة أشهر، ومهّد لثورة سنة 1936 التي قامت في أعقابها »الهيئة العربية العليا« التي دعت الى العصيان المدني، فاعتقل اكرم زعيتر ووضع في معتقل »الصرفند« كعنصر خطر… بذلك كان أول معتقل في ثورة 1936 وآخر معتقل يخرج من الصرفند لاجئا الى دمشق ومشاركا في مؤتمر بلودان.
ومن دمشق خرج الى بغداد حيث عين مفتشا في وزارة المعارف، وأستاذا في دار المعلمين العيا، ومسؤولا عن التوجيه القومي. وخلال إقامته في العراق اندلعت ثورة رشيد عالي الكيلاني 1941 ضد القوات البريطانية وكان احد أبطالها، وحين اخفقت تلك الثورة غادر العراق مع الذين غادروا متسللا الى بادية الشام حيث عاش فيها مدة من الزمن في ثوب اعرابي.. ومنها انتقل الى الاناضول في تركيا حيث مكث فيها طيلة سنوات الحرب العالمية الثانية لاجئا سياسيا. وعندما انتهت الحرب عاد الى سوريا متنقلا بين دمشق وبيروت وسلاحه قلم كحد السيف في صحافة البلدين دفاعا عن وطنه المهدد.
ومع المراحل التي كانت تمر بها مأساة فلسطين عاد الى القدس حيث تولى رئاسة تحرير جريدة »مرآة الشرق«، وبعد ثلاثة اشهر مع الصحافة ومع قلمه اللاذع حكم عليه بالسجن ثم أبعد من القدس الى نابلس لمدة سنة في الاقامة الجبرية، وبانقضاء السنة على الإبعاد عاد الى القدس وتولى تحرير »الحياة المقدسية« التي ألهب قلمه فيها شعب فلسطين وكان »الدينامو« المحرك للتظاهرات احتجاجا على تسليح اليهود واستمرار تدفقهم من الخارج. فاعتقل مجددا وعطلت جريدة »الحياة« ثم خرج من السجن وأبعد مرة اخرى الى نابلس حيث قاد الحركة الوطنية هو ونخبة من السياسيين في وجه السلطات البريطانية، واشترك في تأسيس حزب الاستقلال الذي كان من اقطابه: عزت دروزو وعوني عبد الهادي وصبحي الخضرا ورشيد الحاج ابراهيم والدكتور سليم سلامة وفهمي العبوشي واحمد الحسيني وعجاج نويهض.
ولما كان ذلك »الدينامو« لا يهدأ ولا يرتاح، فقد اشترك في تأسيس »عصبة العمل القومي« في سوريا ولبنان، وانتخب نائبا لرئاسة المؤتمر التأسيسي الذي انعقد في قرنايل لبنان سنة 1933.
ان الحديث والكلام على اكرم زعيتر طويلان، ولست مبالغا لو قلت انه بعض تاريخ النضال الفلسطيني منذ ثارت فلسطين على الاستعمار واليهود. لقد كان يداوي جروحه بالكلمات. فهو من جهة زعيم سياسي كبير، وهو من جهة اخرى صحافي وكاتب وسيد من سادة المنابر.
وقبل ان اختم حديثي ورحلتي معه اذكر عملا من اعماله لا يعرفه الا »القلة« يوم كان سفيرا للأردن في بلاط شاه إيران. فخلال إقامته في طهران نشأت صداقة حميمة بينه وبين شخصية إيرانية مقربة جدا من الشاه تولت مناصب عالية في الدولة منها منصب وزير البلاط. وتمكن السفير اكرم من كسب تلك الشخصية الى جانب العرب. وشعر الشاه بهذا الاتجاه لدى وزيره وغض الطرف لكنه غضب عليه في ظرف من الظروف عندما وجد الشاه نفسه مضطرا الى مسايرة اسرائيل.. وذهب في غضبه الى درجة جعلت وزير البلاط يشعر بانه معرض للأذى فتوارى أياما عدة، ثم تمكن اكرم زعيتر من تهريبه بلباس »الشادور« مع فريق من النسوة اللواتي كن يزرن »مشهد« حيث يرقد الامام الرضا عليه السلام. وقد ظلت قصة اختفاء وزير البلاط سرا الى ان اعتزل الشاه، وهو لا يعلم كيف اختفى صاحب »الشادور« من القصر الامبراطوري، وللقصر آذان وعيون لا تنام..
وبعد، لقد كان اكرم زعيتر في فضائه نسرا يجود في التحليق ولا يحط الا على القمم. اغمض عينيه وقلبه على وطنه لا يعرف كيف يكون مستقره ومستقبله، وسط التداعي الرهيب الماثل، مفكك الاوصال مبعثر الطاقات لا يملك عدة المواجهة والصمود في وجه الاخطار. مات والوطن مقبل على صراع »سلمي« أشد هولا وأقسى من الحروب التي استهلكت معظم سنوات هذا القرن، والتهمت ثرواته، وزادته تمزقا وبعدا عن التوصل الى وحدة تحميه وتحصنه.
أيها الأخ الكبير المجاهد اكرم.
لقد رحلت وأنت قابض على الملحمة، وتبقى ذكراك أنشودة طموحا وتجددا لصورتك في القلوب والاذهان، فحياة الكبار ليست أياما تعد، بل أعمال وعطاءات تتجمع في ميادين الحياة الاكثر انفساحا للرجال الرجال.

Exit mobile version