من حق ذريتي أن يعرفوا أين ومتى وكيف تكونت خصالي التي يعتقدون بالمبالغة أحيانا وبالتمني أحيانا أخرى أنهم ورثوها وخصال لا يأتون على ذكرها أمامي على الأقل أو أسمع أنهم يتبرأون منها إن هم بالفعل ورثوها وفشلوا في إخفائها عن عيون وآذان المتربصين. أنا شخصيا وقد تحررت من أعباء كثيرة رحت أسعى معهم بحثا عن إجابات شافية على عديد الأسئلة. أما وقد تعبت من الدق على أبواب من هم أكبر عمرا في عائلتي لم أجد سبيلا إلى الإجابات أفضل وأقصر من أن أنقب بنفسي في ذاكرتي وفي أي ذاكرة أخرى عاشت ما عشت ولم تغب الشمس عنها.
***
نشأنا في بيئة تلزم الحضور كبارا وصغارا الإنصات لساعات. كان للإنصات في عائلتنا شروط وقواعد تضمن الانضباط ولا تسمح بتفاقم الشعور بالملل وتعاقب الإعراب عنه لو وقع. اعتمادا على ذاكرتي أكاد أؤكد أنه لم يمر يوم خميس إلا وكان بالقاعة الكبرى ببيت العائلة مقرئ يتلو علينا من آيات الذكر الحكيم ما تيسر له ثم يقرأ زميله من بعده ما تيسر له هو الآخر. يتبادلان التلاوة حتى ينادي المنادي على الغذاء وشرب الشاي. تدربت طفلا على الإنصات من موقعي على حجر أمي أو خالة من خالاتي قبل أن أنقل إلى مواقع شبه مستقلة حين اقتربت من سنين المراهقة. كلفوني مع من هم على شاكلتي بالجلوس على كراسي قريبة من باب الخروج. ننهض إذا همّ ضيف في نية انصراف واضحة فنتوجه ناحيته لنرافقه حتى باب البيت المطل على الشارع. ننصت في أدب إلى ما يقول أو تقول. لا نعلق إلا بكلمات عامة ليس بينها ما يفشي سرا عائليا. هناك عند الباب نودع الضيف بالتحية الواجبة بدون زيادة. لم يكن مسموحا لنا قبول هدايا نقدية أو الاستسلام لأحضان أو ملاطفة من جانب رجال أغراب. بعد الانتهاء من إجراءات الشكر والتوديع كنا نتمنى لو امتدت لوقت أطول فترة نتسكع فيها بعيدا عن رقابة الأهل. هناك من الشارع تتنافس لتصل صافية كل الأصوات المرغوبة من مراهق في مثل عمري. أسمع بعضها الآن وأنا أكتب، أسمع أصوات تصدرها عربة الجرانيتة والأطفال من حولها يتوسلون للبائع ويتقافزون. أسمع صراخ البنات من فوق عربة المراجيح أن أترك واجباتي العائلية وأنضم لهن، لم يكن قد بلغني في ذلك الزمن أن صراخ البنات كصوتهن عورة. وبين اللحظة وما تليها أسمع الصوت الملائكي لبائع الفول الحراتي يروج لفول هو كالزبدة ملفوفة في ورق أخضر، وأسمع الصوت الخشن والمدوي لعسكري الدورية يؤكد به للمارة وأصحاب الدكاكين والنساء المتخفيات بالمشربيات حال استتباب الأمن. لا نشاز اشتكت منه أذن بل متعة استماع كاملة الأركان والأوزان.
***
أتقنت فن احترام قدسية المجالس من مواظبتي على حضور مناسبات الخميس. أما موهبة حسن الإنصات فهذه أتقنتها ومواهب أخرى في بيت الشيخ محمد الأستاذ الأزهري اللامع والمتزوج من إحدى خالاتي. للرجل كلمة كانت مسموعة في كل بيوت العائلة وليس فقط في بيته. أمر بأن أتلقى مع بناته دروس اللغة العربية وبعض محاضراته في شئون الحياة والمحافظة على الصحة. كان يحتفظ في قاعة الدرس بترسانة أدوات تهذيب وتعذيب ولا ينسى فور دخوله القاعة أن يأمر ابنته المكلفة بتنظيم أنشطة العائلة في هذا اليوم بأن تضعها بترتيب معين إلى جانبه على الكنبة التي يجلس عليها. وضع للبيت نظاما يضمن للإبرة بأن تسقط فيسمعها الشيخ من حيث تربع. لكل بنت يوم تتولى فيه إدارة البيت تحت إشراف الأم، ولكنها، وليس الأم، المسئولة أمامه عن أي خرق للنظام أو سوء إدارة. كنا كثيرين، بيننا أطفال ومراهقين وشباب. ويتعين على كل منا أداء واجبات والتزام مواعيد نوم ثابتة، ولكل منا موقع في القاعة الواسعة لا يتغير إلا بإذن. شعار الجميع النظام والانضباط والتحدث بصوت خفيض وإتقان الإنصات.
استيقظت ذات صباح مبكرا. قادتني رائحة إلى فرن في ركن الحديقة يخبزون فيه خبز اليوم ويستثنون عشرين رغيفا يحشى كل رغيف منها بما يلزمه من السمن البلدي والسكر قبل الدفع به مرة ثانية إلى حيث اللهيب ما يزال متقدا في قلب الفرن. حملت نصيبي ولمحت على البعد نسخة من صحيفة الأهرام على فراش يستخدمه البواب. فتحتها وبدأت أقلب صفحاتها. اختفى البواب وعاد مصطحبا ثلاث من بنات خالتي مكفهرة وجوههن. كان يجب أن أعرف من قواعد النظام في البيت أن أحدا لا يفتح الجريدة قبل أن يقرأها فضيلة الشيخ. يومها قررنا استخدام المكواة لإعادة صفحات الأهرام إلى اتساقها الموروث والمعروف. صارت واحدة من عاداتي. تزوجت وأنجبت ونشأ الأولاد جميعا يحترمون رغبة الجرائد الصباحية أن يكون رب البيت أول قارئ لها. سألني الأستاذ هيكل أثناء دردشة صباحية على فنجان القهوة وصحف الصباح في نيويورك عن مصدر هذه، أجبت وأصابعي تتردد في تناول صحيفة انتهى لتوه من قراءتها، لا أحبها “منكوشة”. بقيت معي هذه العادة. بقي أيضا عشقي لرائحة خبيز. زرت باريس. وفي كل زيارة تصر رائحة الخبز أن تداعبني فتذكرني برغيف السمن البلدي بالسكر الخارج لتوه من فرن فضيلة الشيخ محمد في قاهرة المعز. كنت في قاهرة المعز طفلا وكنت في باريس شابا والرائحة لم
***
نعم هناك في تلك القاعة الرحيبة في قاهرة المعز أتقنت مهمة الإنصات. كان فضيلة الشيخ يقضي معظم ساعات الليل وأحيانا حتى الفجر يحاضر فينا. وكنا ننصت. أظن أنني ما كنت تحملت الاستماع إلى خطاب مدته ثلاث ساعات في مجلس الجامعة العربية أو في القمة العربية، ثم إلى خطاب آخر مدته ساعتين وهكذا حتى منتصف الليل. تسمع وأنت غير مصدق أو غير متقبل أو غير واثق. هناك أيضا مجتمع الحريم الذي قضيت في رحابه فترة لا بأس بها من مرحلة النشأة. أعتقد أنها فترة خلفت آثارا عميقة وغرست ممارسات صارت بعد قليل عادات، أو قل خصالا. هناك وفي تلك الأيام والليالي أدركت أهمية الانصات إذا تكلمت إمرأة . هناك تعلمت كيف أنصت، وأبدو منصتا. “ولد كويس بيسمع الكلام” نيشان على صدر طفل يطيع ولكنه أيضا يجيد الإنصات وينتبه لكل كلمة ينطق بها محدثه، ويأخذ كل ما يلزمه من وقت ليرد. لا أحد أجاد الإنصات وفشل في حياته.
