طلال سلمان

أسعد المقدم يترجل ..

…ولأن أسعد المقدم كان يعيش بالحب وعليه، فإنه قد انطوى في قوقعة وجعه، وانسحب متجنباً رياح الأحقاد والضغائن التي باعدت بين الاخوة فصورت واحدهم خصماً للآخر.
ذلك ان اسعد المقدم الذي خاض في شبابه معارك سياسية عنيفة، التزاماً بخياره، ظل حريصاً على صداقاته جميعاً، حتى مع من كانوا يرونه في موقع الخصم، وظل شديد التمسك بمحاورة الجميع والتلاقي معهم على البديهيات الوطنية والقومية.
ربما لهذا كله اختار هذا الصحافي بدمه ان ينسحب من ميدان الكتابة، بعد تجربة عريضة امتدت لأكثر من نصف قرن، بدأها في مجلة الصياد ووصل بها الى الذروة مع رئاسة التحرير في جريدة السياسة ، قبل ان ينتقل في اجازة قصيرة الى رئاسة المجلس الوطني لانماء السياحة، ليعود بعد فترة الى مجلة الاسبوع العربي رئيساً للتحرير.
في منتصف الستينيات قرر اسعد المقدم ان يذهب لمواجهة العدو في قلعته المحصنة… وهكذا ذهب بصحبة أميرته منى شهاب الى الولايات المتحدة ليقاتل من قلب واشنطن، وتحديداً من السفارة اللبنانية في واشنطن التي عمل فيها كمستشار اعلامي وسياحي.
وحين عاد الى بيروت قصد السفير التي كانت كأنما تنتظره، فتولى موقع المدير العام فيها، ليرسي مجموعة من التقاليد المهنية، وليحرض على مزيد من الانفتاح على العصر، والاخذ بأسباب التقدم العلمي. فقد ادرك مبكراً ان لا نجاح بل لا حياة لمؤسسة لا تسبق الى التكنولوجيا وتقبع في اسار تقليد السلف الصالح.
لكن جامعة الدول العربية سرعان ما استعارته ليكون مدير مكتبها في لندن، حيث بات لاي سياسي او عربي محطة اجبارية في مكتبه او في منزله.
بعد العودة في مثل هذه الأيام من العام ,1995 تولى رئاسة تحرير نشرة المستقبل قبل ان تصبح جريدة يومية…
كان قد حسم خياره: ان يكون في الظل.
كان الفارس قد تعب من منازلة الخصوم… والمرتدين، فقرر ان ينصرف الى الشغل على المادة وعلى الصورة ، اذ لا حياة لجريدة بلا ذاكرة، وبلا سجل لاحداث الماضي يصوب لها الطريق الى المستقبل.
و السفير في حزن حقيقي، فلم يكن اسعد المقدم ضيفا عليها، ولم يكن مروره عابراً، بل لقد شارك ولو من على البعد في تأسيسها بالرأي والمشورة والنقد حين كان الامر يتطلب ذلك.
كما انه ساهم في ارساء بعض العلاقات مع مسؤولين عرب، من خلال جولات عديدة قام بها، داعية لجريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان .
سنفتقد بحرقة هذا الفارس الذي اعطى الصحافة اكثر مما اعطته، وحاول ان يعطي في السياسة فصده تنكر السياسيين، لا سيما حين صاروا قادة حروب واستعملوا الطائفية والمذهبية بديلاً من العقائد والافكار في عملهم الشعبي ،
لقد انطفأ اسعد المقدم قبل وفاته بزمن، خصوصاً وهو يرى وطنه يغوص مرى اخرى في دهاليز محنته المتجددة كل حين، وقد زاد من اوجاعه ما اصاب هذه الامة العربية، على يد انظمتها، من كوارث وخيبات وهزائم كان بالامكان تجنبها لو انها حظيت بقيادات مؤهلة وراشدة وتهتم بالمستقبل اكثر من اهتمامها بالحفاظ على مواقعها، اليوم وبأي ثمن، ربما لانها لا تضمن وجودها غداً.
رحم الله هذا الزميل الكبير الذي لم يحظ من دنياه الا بالقليل من الفرصة لكي يقاتل كما طمح دائماً لان يقاتل من اجل ما يعتقده الحق والخير للناس اجمعين… وهو الذي لم يكره من بينهم احداً.
والعزاء للاميرة منى ولسهيل ومنال، ولعائلته الكبيرة، في طرابلس كما بين الصحافيين الذين ما زال في أسرة السفير العديد ممن تعهدهم اسعد المقدم بالحب والرعاية والنقد الصريح حين يلزم ليكونوا امناء في خدمة هذه المهنة ذات الدور الخطير في تعميم الوعي.
رحم الله أبا سهيل ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

Exit mobile version