طلال سلمان

أدونيس وديوان الدم: لم يدخل هذا التاريخ ليخرج منه..

»ومنزل ليس لنا بمنزل«…
»لا تلقَ دهرك إلا غير مكترث«..
»ان النفيس غريب حيثما كانا«..
» كأني عجيب في عيوب العجائب«..
» شيم الليالي أن تشكك ناقتي
صدري بها أفضى أم البيداء«…
»وجبت هجيراً يترك الماء صادياً««.
»يضمه المسك ضم المستهام به«..
هذه سيوف المتنبي التي شق بها أدونيس التراث الدموي للإسلام، منذ نشأته الأولى، تمهيداً لأن يعيد صوغ النعي الأخير شعراً: عندما تتوهج فينا الحقيقة، لا تتكلم إلا مجازاً.
عاود أدونيس الرحلة عكسياً، منذ سقوط الراية الأخيرة من يد المسلم العربي الأخير، وحتى لحظة الانفجار الأول لدماء العرب الأوائل الواقفين على باب الإسلام مترددين بين سيف دعوته وسيف الارتداد عنه.
لقد خاض أدونيس بحوراً من الشعراء الشهداء والشهادات الشهيدة حتى استكمل ديوان الدم الجديد: »الكتاب، أمس المكان الآن، وأصدره »مخطوطة تنسب إلى المتنبي يحققها وينشرها أدونيس«.
لم يبق خارجي في الخارج. لم يهمل مهمل أو مهمش. أعيد نصب المحاكم، ودِينَ القتلة جميعاً وعلقت أسماؤهم وجرائمهم على أستار »كعبة« مستحدثة:
»تلك آهات أسلافنا،
مطر غامر، مطر غامض
وخطانا حقول لها«
كيف وأين وماذا بقي من الإسلام بعدما أبيد المسلمون؟!
هل يعيش الإسلام خارج الفكر، خارج الحرية، خارج الإنسان؟!
ومتى ذهب الإسلام إلى القصر لم يتبق منه غير ما يموه المنظر الامبراطوري القديم.
»إنه العرش يصقل مرآته،
صورة للسماء،
ويزين كرسيّه
بشظايا الرؤوس
ورقش الدماء«
لكان أدونيس ينعى الإسلام ذاته، بعد المسلمين. ولكأنه يريد أن يقول إن الذين كان يمكن أن يستبقوه في الناس وللناس هم الذين طوردوا حتى استؤصلوا فوئدت معهم الإشراقة العظيمة.
»أفق: مخطوطة عجماء
والقتل بيان«
وفي النعي الجماعي تتبقى للكوفة منزلة جسد الشهيد الحي:
»سحب فوق الكوفة، هذي انفاس الفقراء،
»أجمل قطر، أصفى ماء«..
ثم: »من يعرف ماذا قال الرمل، اليوم، لريح الكوفة.
»من يعرف ماذا قالت ريح الكوفة اليوم لرمل الكوفة.
»غيب الكوفة يزهر في ألفاظ بنيها،
»لكن لا يثمر إلا موتاً…«
ثم: »للفرات، لدجلة، للغابرين لغات.
وشعري جعجامها وأعرابها«
والأسئلة اشد من القتل: »أهناك ماء يروي ظمأ الماء«؟!
»هل يتلألأ نور في مشكاة دماء«؟!
على أن أدونيس يقول سلفاً »البيت الأخير« الذي يضبط إيقاع الديوان الدموي الجديد:
»لا احيا في هذا التاريخ
ولا أتشرد فيه،
إلا لكي أخرج منه«.
ولأن الكل قد مات، الإسلام والذين حملوا رايته الأولى، والذين حكموا باسمه على المسلمين فاستأصلوهم وأعادوه إلى دفتي كتابه في انتظار أن تنبض سطوره من جديد، يرشدك أدونيس إلى البداية التي ستكون لها في كل لحظة بداية قديمة:
»هو ذا أمامك باب التاريخ،
اخلع نعليك،
يميناً، يساراً، استقم،
من شيء يشبه القبر تبدأ الحكاية«
فلقد »كتب الوقت آياته، بيدي قاتل وعلى حد سيف«،
لكن سيف أدونيس المستخرج من صندوق المتنبي يقطر شعراً مدمى ويتوغل بك في قلب المأساة لتتعرف إلى نفسك، إلى يومك عبر كل تلك الجثث التي يرى أنها تصنع تاريخك!
لقد قطع أدونيس بسيف شعره رأس التاريخ!
ومن أجل خاتمة مسلية، نقتبس:
»راوٍ آخر يروي:
شاهدت عبيد الله وبين يديه رأس حسين،
والمختار وبين يديه رأس عبيد الله،
ومصعب وبين يديه رأس المختار
وعبد الملك وبين يديه رأس المصعب..
وثنى هذا الراوي:

»قالوا بيد الله وقدرته،
مكتوب هذا في الفلك، يا هذا الشاهد لا تعجب«.
أدونيس:
»دائماً في رحيل،
عن سواه، وعن نفسه
هكذا رسمته الفصول على وجهها«.
لم يبدأ أدونيس من هنا، وهو لن ينتهي هنا، حتى لو أكمل »الكتاب« بأجزائه الثلاثة.
إن رحلة تشرد أدونيس من أجل الخروج من هذا التاريخ الذي لا يحيا فيه، قد بدأت منذ زمن بعيد، ربما من أول كلمة خطها، ربما مع أول بيت شعر أطلقه معلناً ولادة شاعر عربي كبير.
هي رحلة لم تبدأ ببيروت، وإن كان أدونيس، على الأرجح، قد حدد فيها ومنها »المسار« قبل مجلة »شعر« ثم فيها وعبرها،
لكن الرحلة مشوقة أكثر من »شعر«، وشاقة أكثر من الكتابة نثراً وشعراً، ولعلها كانت بحاجة الى مزيد من الغربة الجسدية لكي تصل إلى ذروتها المبتغاة، فيتكامل المبنى والمعنى، عبر التحرر من الجغرافيا والتاريخ، وتعبِّر النزعة الانشطارية عن ذاتها بوضوح مطلق، وبلغة قرآنية معززة باستشهادات غير قابلة للدحض من كتب السيرة والتفسير ورواة الحرب الأهلية بين المسلمين التي كادت تقضي على الإسلام في أيامه الأولى، والتي ما تزال مستعرة تأكل منه ولا تشبع حتى يومنا هذا.
إنها الحرب الأهلية شعراً، الآن،
إن الشاعر هو القاتل من حيث هو القتيل، وهو الشهيد من حيث هو الشاهد، وهو الناعي من حيث هو الراوية والمؤرخ والراثي بلغة الميلاد.
وصادقٌ أدونيس تماماً حين يقول: »لا أحيا في هذا التاريخ ولا أتشرد فيه إلا لكي أخرج منه«… صادق في قراره، لكنه لم يكن في أي يوم محادياً لتقبل روايته والشهادة التي سوف تخرج كثيرين غيره.

 

يوسف صقر واكتشافاته: سعيد الخوري الشرتوني والمعاصرة

بين الحين والآخر يفاجئني هذا الرجل المكتبة يوسف صقر ببعض اكتشافاته التي التهمت عمره: كتاب عمره مئة سنة أو يزيد، لكاتب مجتهد منسي، أو بحث ممتاز لدارس لم يحظ بالشهرة ومات مغموراً،
ولو كان الغنى بالمعرفة لكان يوسف صقر من أغنى الناس.
إنه ينقب، يكتشف، يدقق، يستوثق بالمقارنة وبالذهاب الى المراجع، رجالاً متفقهين أو مكتبات، حتى يطمئن إلى سلامة النص، أو الى صحة المخطوط، ثم الى نسب المنشئ أو المؤلف.
ولأن يوسف صقر يحفظ براءته وصفاء سريرته في حرز حريز،
ولأنه لا يزوّر التاريخ ولا يسمح للآخرين بتزويره ولا يتساهل معهم مهما أتعبوه،
ولأنه معتدّ بمارونيته اعتداده بعروبته،
ولأنه يعرف ضيعته »بجه« بأصولها ومكوناتها، ومن ثم أصول جبل لبنان ومكوناته،
ولأنه قرأ كثيراً واكتشف كثيراً فعرف كثيراً؛ فهو يخوض معركة »الفارس الوحيد« ضد تزوير الهوية والانتماء بتزوير أو طمس الوقائع التاريخية التي لا تروق لأصحاب الأغراض السياسية أو تنسف مرتكزات »زعاماتهم« بتغليب ما هو طائفي على ما هو وطني وقومي.
آخر ما تلقيته من هدايا ثمينة من يوسف صقر كتاب يحمل في صدر صفحته الأولى التعريفات الآتية:
»فصل الخطاب في الوعظ«
للحبر العلامة والإمام الفهامة
السيد جرمانوس فرحات
مطران الأمة المارونية في مدينة حلب المحمية
رحمه الله
مع ثلاث محاورات في علم الخطابة
وضعها السيد فنيلون أسقف كمبراي
أحد أئمة البلغاء ومشاهير الخطباء عند الفرنسيس
ترجمها من الفرنساوية بالعربية العالِم العامل والأستاذ الفاضل
سعيد أفندي الخوري الشرتوني اللبناني
عُفي عنه
طُبع بالمطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين في بيروت سنة 1896
* * *
أي أن الكتاب عمره مئة عام بالتمام،
في هذا الكتاب الأثر فصل يحمل عنوان
»نبذة من كتاب أشعة الحق، وهو مجموع ما أنشأه من الخطب والمقالات سعيد أفندي الخوري الشرتوني
غفر الله ذنونه وستر عيوبه«
في هذا الفصل، خطبة »في أن الخطابة أعظم قوة وهبها للإنسان«، ألقيت في 19 نيسان 1893، لسعيد أفندي الخوري الشرتوني، تضمنت مقاطع تصلح لأن تعتمد الآن أو تستعاد، لتوطيد أواصر »المصالحات التاريخية« التي تعقد جزافاً بين المسيحية الغربية واليهود، ثم بين إسلام الحكم واليهود، مسقطة عن هذه الأرض العربية هويتها وتاريخها.
يقول سعيد أفندي الخوري الشرتوني في خطبته:
»أليس على ذكر منكم أقاصيص الشهداء، أم لم تمرَّ بمسامعكم أحاديث اضطهاد القياصرة الرومانيين للمتنصرين وذراريهم؟ أم لا تذكرون كيف احتفروا الحفر في رومة على عهد المضطهدين مفضلين الإقامة بها مع بقائهم في إيمانهم على سكنى القصور على الراحة والسعة مع إنكاره ولو باللسان؟!
وأحسبكم تتذكرون حديث أصحاب الأخدود، وهم نصارى نجران الذين أريدوا على اليهودية فأبوا فخدَّ لهم »زرعة« أخدوداً وملأه ناراً، وخيّرهم بين اليهودية والنار، فقذفهم بها فتقحموها ولم يرتدوا عن دينهم.
وبعبارة أخرى أقول لو ان ملكاً حارب مملكة، ودوخ كل إقليم من أقاليمها وأخذها عنوة حتى استأمن إليه أهلها ودخلوا في طاعته، لبقي في قلق على نزعها من يده ما دام سكانها منطوين له على الحقد وطلب الثأر ورفع الضيم..«.
]وما يتجاوز الخطابة إلى الواقع أعظم وقعاً من كلمات سعيد أفندي..[.

 

سعيد سلام: لا حزن لصانع الفرح

صانع الفرح لا يحظى عادة بما يليق به من الحزن،
ربما لأنه يجيء من خارج دائرة الحزن، ويعيش خارجها، ويستدعيه الناس ليخرجهم منها، وليحملهم على أطراف ريشته، وعبر النغمة الشجية، الى عوالم يشتهونها، ولكن أيامهم تُعجزهم عن بنائها أو عن بلوغها إلا عبر جو من الأحلام والأوهام السندسية المموسقة،
صانع الفرح، مدغدغ الأحلام، المتخصص باستيلاد »الآه« من الصدور المكتظة بالهموم وأسباب الاكتئاب، رحل من غير مشيعين ولا من يرثي ريشته أو يمنحه وسام النغم، أو يطلق اسمه، مثلاً، على رنة عود.
سعيد سلام،
الرجل الذي ينطق فيُنطق بأصابعه، في حين تتعثر الكلمات على لسانه، لأنه يتقن لغة وحيدة يقول بها كل ما يريد أن يوصله الى الناس.
لم يكن سعيد سلام رجل علاقات عامة.
لم يكن حضوره خبراً، وربما لهذا لم يكن في الغياب ما يثير.
كان يُطلب فيجيء بهدوء، يجلس صامتاً، منزوياً في الغالب، في انتظار أن يأتي دوره الى الخلف مخلياً الساحة للمطرب أو للمطربة، لا يتقدم إلا إذا أراد الساهرون أن يستمعوا الى النغم مصفى، فيطلقه رقراقاً حنوناً معافى، وعندما يطمئن الى الاصغاء يكافئ أنامله بابتسامة تضيء وجهه وقلبه ولكنها لا تطلق لسانه…
لم يعرف سعيد سلام أن ثمة علاقة وطيدة، هذه الأيام، بين اللباس والموسيقى، بين افتعال الأستذة والتصرف كعبقري منفوش الشعر براق الأصابع لماع الثياب، وبين إطلاق النغم ليسعد الناس ويمتعهم ويدغدغ فيهم مكامن الحس بالجمال.
لذلك ظل التعامل الرسمي معه وكأنه مجرد »الآتي«. إنه عواد، لا أكثر!
ربما منَّ عليه البعض بلقب »أستاذ«، مجاملة، لكنه لم يعط نفسه مثل هذا اللقب، وظل يعتبر نفسه مجرد تلميذ ودارس يحاول أن يدخل بلاط الأساتذة الكبار، بأدائه واجتهاده الشخصي. لعله يوصل تلك الألحان الخالدة التي ابتدعها محمد عثمان وعبده الحامولي وسيد درويش ومحمد عبد الوهاب والشيخ زكريا أحمد ورياض السنباطي وفريد الأطرش وبليغ حمدي وآخرون ممن استقروا في وجدانه، في حين امتلأت نفسه حتى أطراف أصابعه بالنغمات البكر التي عاش أسيرها، في حين كان يبدو وهو يعزف وكأنه سيدها.
ليس كل الناس عباقرة. لكن للمتقنين والمخلصين والمجتهدين نصيباً في تعميم العبقرية وإشعاعها على الناس المتشوقين للحظة سعادة، ولو عارضة.
سعيد سلام لم يعد بيننا.
لقد نقصت لحظات السعادة النادرة.
لقد سقطت نغمة شجية، وأخذت معها صداها، مخلّفة مزيداً من وحشة الصمت.

 

Exit mobile version