تمددت مارغريت على “الشيز لونغ” مقابل البحر اللازوردي. الطقس رائع، قالت لنفسها وهي تتأمل الأمواج الهادئة. كانت قد وصلت منذ يومين إلى الفندق ذو النجوم الخمسة برفقة صديقها مارك من نيويورك مباشرة بعد أن حجزا جناحاً لقضاء أسبوع من الراحة والاستجمام. “استمتعوا بالجنة” هكذا يقول الإعلان الذي تضمن التسعيرة الخاصة بمناسبة افتتاح منتجع ” الأوركيدة الزرقاء الذي يحتوي بالإضافة إلى الشاطئ الرملي، على بركتي سباحة، أربع مطاعم، صالة رياضية مع جاكوزي وسونا… نزهات استكشاف على ظهور الجياد.. ومفاجآت عديدة بانتظاركم… لا تتردوا.. دونت هيزيتيت.. سي يو سون”
ولأن مارغريت كانت تمر بأزمة في علاقتها مع مارك، قررت دون تردد تغيير روتينية حياتها وإعادة علاقتها مع مارك إلى سابق عهدها. وقد سارت الأمور أفضل مما تتوقع، الخدمة جيدة والمكان رائع.
كانا، الأمس، قد تناولا العشاء في المطعم الفرنسي المطل على البحر حيث رافقتهما فرقة أوركسترا عزفت لهما موسيقا حالمة طلبها مارك خصيصا ثم دعاها إلى الرقص، وعندما ضمته إلى صدرها، همست في أذنه بعفوية: آي ونت يو.. ثم صعدا إلى الجناح المطل على البحر حيث مارسا الحب بلهفة عدة مرات…
في الصباح، وبعد وجبة فطور عامرة جربا فيها أطباقاً محلية وأخرى عالمية أكثر شيوعاً، قرر مارك الذهاب إلى صالة الرياضة بينما فضلت مارغريت الاسترخاء على شاطئ البحر. ولأن مزاجها كان رائقاً فقد قررت السير قليلاً على الرمل حافية القدمين وهي تضرب الأمواج بقدميها. وبعد أن ابتعدت قليلاً جلست على صخرة صغيرة تتأمل المشهد وتستمتع بالهدوء، ثم استلقت تماماً وأغمضت عينيها.
وكما يحدث عادة في تلك اللحظات التي يختلط فيها النوم باليقظة تحت أشعة الشمس، ظنت أولاً أنها تتخيل أو تتوهم، لكن الأصوات التي سمعتها كانت على قدر كبير من الوضوح.. لم تفهم كثيراً ما يُقال، لكن هناك أصوات لاتحتاج للفهم خاصة عندما تشبه الأنين أو الشكوى. رفعت رأسها عن الأرض ثم وضعته عدة مرات وبقيت الأصوات تزن دون توقف كأرواح عالقة تبحث عن طريق خروج… في لحظة معينة هُيىء لها أنها ترى أشخاصاً يتحركون في الفضاء، يرتدون ثياباً طويلة ويفتحون أياديهم كما لو أنهم يرقصون. لم تكن خائفة حتى أنها أخرجت تليفونها المتطور وضعته على مصدر الصوت، شقً صغير في الصخر وأخذت تسجل، ثم وضعت المترجم الخاص بالذكاء الاصطناعي فأجابها بوضوح أن ما تسمعه هو بيت شعر قديم:
خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ…
أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ
نحن في العام ٢٠٤٠ وكان أحد رؤساء أميركا قد تمكن منذ سنين، من شراء قطاع غزة وتحويله إلى “غزة لاند” بعد أن قاوم أهله التهجير ببطولة فائقة مما اضطره إلى القاء قنبلة متطورة مشابهة لقنبلة هيروشيما. ماتت أعداد لم يتمكن أحد من إحصائها إذ جاءت الجرافات العملاقة سريعاً وسوت الأجساد بالأرض، واضطر من بقي إلى الرحيل. وبعد موجة عارمة من الاستنكار العالمي والمظاهرات المليونية، صمت الجميع بل وشارك الكثير من الدول الأوروبية والعربية في استثمارات سياحية ضخمة بدت عوائدها مضمونة. الرئيس وكان اسمه دونالد ترامب، قد حاول أيضاً شراء بلاد وأراضي في كندا والغرويلاند وحتى في أوكرانيا، وأدخل بلاده في معارك ربح بعضها وتراجع عن بعضها الآخر. وبعد نهاية ولايته الحافلة بالفضائح بثلاثة سنوات، قام أحد الأشخاص باغتياله لأسباب لم تُعرف حتى اليوم.
مرغريت في الثالث والعشرين من عمرها، ولا تعرف أي شيء عن تاريخ المنطقة ولا عن أحداث العام ٢٠٢٥ وما سبقه. قرأت في المنشور السياحي أن غزة لاند هي منطقة سياحية فضل أهلها الانتقال إلى أماكن أخرى بسبب نقص المياه وفرص العمل مما جعل الحياة صعبة. ثم اكتشفها الرئيس “الراحل” ترامب فقام بشراء أراضي واسعة وقدم حلولاً بديلة رائعة ” اميزينغ” للقاطنين (لايحدد المنشور هويتهم ولا أين هم اليوم) القُدامى. لكن مارغريت وبعد أن قامت بالبحث بواسطة الذكاء الاصطناعي وجدت عدة نصوص تنصحها بعدم الخروج وحيدة خارج المناطق السياحية، فهناك بعض المجموعات الدينية تقول أنها في أرض الميعاد وأن الخالق (ذا غاد فازر في النص) كان قد وعدهم بها منذ أكثر من ألفي عام، وهم يتابعون الاستيطان جنوباً وشرقاً في أراضٍ أخرى لم يحددها النص.
في المساء وبعد عشاء شاعري آخر، حاول مارك تقبيلها على رقبتها، لكنها أدارت رأسها متظاهرة بالنوم. كانت الأصوات التي سمعتها في الصباح تزن في رأسها خافتةً لكنها مستمرة كهدير نهر لا يهدأ.
تقلبت كثيراً في الفراش وكانت ترى في نومها بوضوح شديد، أشخاصاً كثيرين، أطفال ونساء وشباب يتحركون في كل الاتجاهات كأنهم يطيرون في الفضاء … ورغم أنها اعتقدت جازمة أنهم خففوا الوطء كالأرواح المظلومة أو كأديم الأرض، إلا أنها لم تتمكن من النوم.