طلال سلمان

أحبك.. قولوها كتير لبعضيكم

تقاربت المسافات بين الأحداث الملعونة. أعرف كثيرات لم يخلعن السواد منذ شهور. أقابل عديدين تمكن منهم الغضب حتى صار طبيعة أولى. سلوكهم لم يعد السلوك الذي درجنا على ملاحظته بحبور وتقليده بامتنان. لا أخفيكم فمنكم من لاحظ فعلا ونبهني إلى حقيقة أن سلوكي أنا شخصيا تغير. تغيب الابتسامة لتعود غير تلك التي راحت، أو تغيب فترات أطول من فترات غيابها المعتاد وأحيانا لا تعود ليوم كامل. لا، لا أذكر أن ابتسامتي منذ عرفت طريقها إلى وجهي عاملتني على نحو تعاملها الراهن معي. صارت تهرب مني، فهي لا تطمئن إلى مزاجي المتقلب ولا تأتمن أذنيّ على ما تسمعان ولا ترتاح إلى عينيّ وما تشاهدان. معذور أنا بل معذورة كل أمتي  فالأحداث الملعونة لا تفارقنا والغضب العارم سيطر علينا والحزن أقام فينا والشك الشرير يكاد يصبح من شيم أجيالنا.

***

أذكر أنه في عصر الابتسامة، ابتسامتي وابتسامات الآخرين، كنت أتباهى بأن عروق بعض أجدادي وجداتي تجري فيها دماء أزهرية. أكاد أحلف يمينا أنني اصبحت أتردد في التصريح، مجرد التصريح، بهذا النسب الطيب قبل أن أتأكد من هويات  الحاضرين ومستوياتهم في العلم والمعرفة، وربما سألتهم عن ميولهم وصلواتهم وقراءاتهم. كنت أتفاخر في فصول الدراسة الثانوية وحتى في الجامعة وبين أقران متفتحين ورائعين بأن أمي كانت تردد  أنني رضعت من ثديي سيدة مسيحية أقامت لفترة في بيت بجوار بيتنا. كنت أتفاخر، والآن ينصحوني بحبس افتخاري داخل صدري.

أذكر كذلك جانبا من طفولة سعيدة قضيته أتلقى دروسا في حب الخير والخلق في مدرسة للراهبات، وجانبا من يوم كامل  قضيته في رحاب دير للراهبات أثناء فترة الحاقي للعمل في سفارتنا في روما. أقابل أحيانا وللغرابة من لا يخفي  انزعاجه من حكاياتي عن نظافة البلاط والحمامات وغرف الطعام وعن الروائح الزكية التي ما زالت تلامس أنفي كلما اقتربت من دير أو مدرسة للراهبات. لن أنكر أنني تلقيت قسطا من تعليمي الأعلى في جامعة أجنبية. درست هناك الشيوعية على أيدي أساتذة غلاة في إيمانهم بالرأسمالية، وتلقيت دروسا متقدمة في الرأسمالية على أيدي نشطاء ماويين، وحضرت  فصولا منتظمة عن تطور الفكر الاسلامي في واحد من أعظم وأعتى المعاهد  الغربية المتخصصة في بحوث الاسلام. لن أنكر. وفي الوقت نفسه لن أستجيب لضغوط من بعض الزملاء والتماسات من آخرين وتمنيات من أصدقاء وصديقات أن أراعي حساسيات أصحاب الصوت الحاد والتخلف المريع  وأن ألبس السواد الذي يرتدون، وأبتلع أسباب فخري وابتهاجي، وأنسى أنني عشت التعددية وألفت حياة البهجة. يطلبون مني أن أراعي أن دولتنا لا تحب المهرجانات الشعبية وتخشى الفرح وربما فضلت بعض أجهزتها أن يتفرق الناس ويختلفوا، كما يحدث في بعض قرى الصعيد، ولا يتحابوا.

***

اتصلت لتقول أنا لم أنم. “أمسكت بالقلم لأكتب عمودي فارتعش بين أصابعي. بحثت في تفاصيل يوم أمس واليوم السابق على يوم أمس، بحثت عن خبر أو تطور سار أحلله وأكتب على منواله. لم أجد. بحثت  عن ابتسامة في وجه من وجوه عديدة رأيتها خلال اليومين. لم أجد”. قالت لنفسها لعل إصلاحا وقع ولم يبلغني خبره. راحت تسأل  ابنتها عن مدرستها ومدرساتها وما تطور فيها، وتسأل جارتها وصديقاتها عن الأسعار والمرور والخدمات وما تحسن منها، لم تسمع ردا يفتح باب أمل. أجبرها  تواتر الأحداث المفزعة أن تتنقل من عزاء الى آخر، لم تشترك في النحيب فللنحيب أصول لم تتدرب عليها. كل ما استطاعت أن تفعله لتشارك في الحزن العام هو أن تعلن كمواطنة أنها مستهدفه مثلها مثل كل الضحايا، ضحايا المنيا وضحايا البطرسية وضحايا طنطا وضحايا الاسكندرية، كلنا مصريون،  وأنها كمواطنة ستحزن مثلهم وتلبس السواد وتمسح الابتسامة وتستسلم للاكتئاب القومي وتنتظر الحادث القادم.

احتضنت القلم بكل أصابعها واقتربت به من فمها حتى بدت في مرآتها وكأنها تتوسل إليه أن يكتب. أخيرا كتب وكتب وكتب ولم  يرتعش مرة واحدة. انتهت من الكتابة. ألقت بالقلم والتقطت الورقة لتقرأ ما سطره القلم. زاغت عيناها وتسارعت ضربات قلبها. أنكرت أن تكون هذه السطور من صنعها، هو القلم مسه الاكتئاب القومي واستولي عليه اليأس وتسرب إلى مداده الشك .أمسكت كاتبتنا المرموقة بالقلم لتطوحه بعيدا وبالورقة فمزقتها. أوت إلى فراشها لتنام ومع الشروق اتصلت لتبلغني أنها لم تنم.

***

استمرت الأحداث الأليمة تتقارب في الزمن كتقاربها في المكان. هناك أيضا  في انجلترا رأينا الحزن والغضب والخوف. رأينا كذلك اختلافا مثيرا. بالأمس رأيت الشباب والكبار يبكون حزنا على الذين سقطوا ضحية غدر من لا نعرفه. لم نتعرف تماما على هويته. لدينا شكوكنا ولا أحد هنا في الشرق أو هناك في الغرب يدعي اليقين. لم نتعرف تماما على أهدافه. نقول هنا أنه يريد تمزيق جمعنا الوطني وتفكيك الدولة. هناك يقولون أنه يريد ضرب الديموقراطية. أنا أقول أنه هنا وهناك يريد أن يرى شعوبا تتشح بالسواد، كسواد أعلام الجهاد، وتلتزم كآبة وجوه لا تبتسم، كوجوه معظم دعاة المذاهب المتطرفة. أقول أنه يريدنا حزانى، يريدنا خائفين دائما متشككين في من حولنا، ويائسين من حلول مستقبل يسود فيه الرخاء محل الفقر والسعادة محل التعاسة والاطمئنان محل الخوف. الاختلاف المثير بين هنا وهناك هو أنهم هناك أدركوا أهمية إحباط هدف الارهاب. قرروا أن يجتمع الناس على لاءات ثلاث، لا حزن ولا خوف ولا كره.

***

عندما دعت آريانا شباب انجلترا إلى حفل في الهواء تغني فيه ومعها مغنون كبار، لم يدر بخلدي أن أكثر من خمسين ألف شاب سوف يلبون الدعوة. هم لا شك، هكذا فكرت، خائفون مكتئبون حزانى مثلنا. كلا وجدتهم  مختلفين عنا. تركوا الحزن وراءهم، احتموا بكثرتهم، تسلحوا بابتساماتهم ودموع بهجتهم، وجاءوا إلى الحفل يجمعهم ويدفعهم  الحب. الحب هذا الشيء العظيم الذي يخشاه مدبرو الارهاب في كل مكان. الحب هو الطاقة المحركة للشعوب، وللشباب خاصة، نحو الرخاء والاستقرار. رأيته في عيون شباب انجلترا، رأيته وهم يرقصون ويتحاضنون ويشاركون من قلوبهم في الغناء. رأيته في صوت يدعو الخمسين ألفا من الحاضرين لينظر كل فرد منهم إلى الواقف بجواره وأمامه ووراءه ويقول له أو لها….. أحبك.

هكذا تبنى الأوطان أو تنقذ.

ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version