طلال سلمان

آن أن نقفل ايام العزاء

آن أن نقفل ايام العزاء، ونحول ذكرى الفترة المجيدة من تاريخ هذه الامة إلى استذكار لما مضى ولن يعود، والتعامل مع جمال عبد الناصر، القائد العظيم الذي انجز كثيراً وفتح صفحات للمجد والعزة وقاتل فهزم وانتكس ثم عاد إلى الميدان فارساً مغواراً يقاتل الهزيمة في نظامه بعنوان رفاق العمر الذي خذلوه فهزمونا.

آن أن نلتفت إلى مستقبلنا وان نعمل له متخذين من جمال عبد الناصر ورفضه الهزيمة، حافزاً لبناء قدراتنا والثورة ضد حكام الهزيمة والمستفيدين من ادامتها، والهرب من ميدانها إلى الصلح مع العدو الاسرائيلي في “دولته القومية” الجديدة التي تلغي فلسطين كعنوان للامة العربية وحقها في الحياة وقد تخلصت من المنتفعين بالهزيمة والحكم باسمها وتوطيد انظمتهم بالصلح مع العدو وقهر ارادة شعوبهم.

لقد آن أن نعترف بأن القائد العظيم جمال عبد الناصر قد غادر حياتنا عائداً إلى ربه بعدما دلنا على الطريق، بمصاعبه ومخاطره، وعشنا معه وبه أزهى سنوات عمرنا نحن الذين نطرق الآن باب الشيخوخة.

آن أن نعترف أن اليوم غير الامس، بل يكاد يكون نقيضه، وان الغد سيكون عالماً مختلفاً جداً يكاد ينكرنا ويهجرنا إلى غيرنا ممن يفهمون اليوم ويعملون ، حقاً، لغد أفضل.

لكم يبدو الآن بعيداً في الزمان، غريباً في المكان،

ولكننا نبدو من دونه، كقائد شعاره “إرفع رأسك يا أخي، فقد مضى عهد الذل والاستعباد وجاء عصر الحرية والوحدة والإشتراكية”.. نبدو اغرابا في دنيانا هذه، التي باتت فيها اسرائيل بهويتها القومية اليهودية الدولة الوحيدة في ارضنا العربية.. بينما يتسكع حكامنا على ابوابها، مباشرة، وعبر واشنطن يطلبون الصفح عما تقدم من تظاهرهم بالعداء لها والرحمة في مستقبل العلاقة الاخوية معها بوصفها الدولة القومية ليهود العالم.. وسلام الله على فلسطين واحلام التحرير والوحدة العربية والتقدم بالاشتراكية نحو العدالة وبوحدة الامة نحو تحرير المحتل من الارض العربية بعنوان فلسطين.

أيها الاصدقاء،

ربما لأننا عشنا في زمانه لا يمكن أن ننساه لحظة، فاذا ما غاب اعادته الينا خيبة الامل في كل من جاء بعده، بدءاً بمصر السادات وصولاً إلى غرق الامة في دمائها من المحيط الخليج بشهادة الدم المسفوح غدراً في اليمن كما في العراق وسوريا والدم المراق عبر استشهاد ابطال فلسطين، رجالاً ونساء واطفالاً، آخرهم ذلك الشهيد الذي غطت استشهاده شقيقته مريم ابو دقة من خان يونس ـ مصورة التلفزيون في الارض الفلسطينية المحتلة.

أيها الأخوة،

تطرق الذكرى باب الوجدان آتية من قلب بحور النسيان المتعمّد والإهمال المقصود، والخوف من استعادتها بما يفسد الاحتفال السنوي الذي يشابه التأبين ويُراد به التثبت من اندثار كلمة الثورة وطمس 23 يوليو (تموز) ووفاة بطلها جمال عبد الناصر.

تحضر الذكرى وتغيب مصر التي كانت والتي ينبغي أن تكون..

ليس الماضي مقبرة، وليس الماضي ملجأ نحتمي به خوفاً من الكوابيس التي يستولدها حاضر العجز لترسم ملامح المستقبل. الماضي ليس تعويذة نطرد بها شبح إحساسنا بالضعف وانعدام القدرة. ثورة 23 يوليو (تموز) فعل إرادة لمواجهة ما كان تحقيقه في مستوى الأحلام. الإرادة هي الأصل، والإرادة هي ولادة الحلول لمواجهة الصعب.

ليست الثورة ايها الاصدقاء استذكاراً لأيام الشباب والقدرة على اختراق المستحيل التي ضعفت حتى تلاشت. الثورة ليست ذكريات. الثورة قرار بالمواجهة.

ليس لك مكان يا جمال عبد الناصر إلا في الميدان الذي خذلك نظامك فهزمك فيه قبل أن تهزمك إسرائيل، وقضيت وأنت تجتهد للعودة إليه لكي تكفر عن أخطائك: الخطأ في التقدير الصحيح لقوة العدو، وفي التقييم الصحيح لموازين العلاقات الدولية، وفي التثبت مما يمكن أن يقدمه معك ولك العرب، أصدقاء وخصوماً، أعداء وحلفاء.

هي فلسطين دائماً. هي إسرائيل أولاً وأخيراً، لأنها تختصر الكل، الأميركيين وعربهم، الانهزاميين من أهل السلطة وأهل المال والمتعبين من النضال.

هي فلسطين دائماً. هي رفض الهزيمة في مواجهة إسرائيل، لأن من يهزم في هذه المواجهة سيهزم في الميادين جميعاً: في التنمية والبناء والسعي إلى الازدهار والمنعة التي تحمي استقلال الإرادة. الهزيمة تجيء من الخلف وليس من مواجهة العدو. تجيء من قهر الشعب وعزله وإبعاده عن القرار الذي سيتحمّل أعباءه جميعاً. الهزيمة في القلب وفي الفكر الذي يرى في الالتحاق بالغير تقدماً وفي استعارة الأثواب الجاهزة دليل غنى. العجز ليس مغارة الأمان. لا مجال لأن تهرب من عدو يملأ عليك الحاضر والمستقبل ويعزلك عن العصر.. بل هو يعزلك عن ذاتك، عن أهلك، عن الدنيا، ويجعلك متسولاً تطلب نتفة من حقك فترفض عروضك للتنازل، لأن من يفرّط بالجزء يفرّط بالكل.

إذا كنت تستطيع أن ترفع رأسك، يا أخي، فلماذا تخفضه بالإذلال؟

وإذا كان حقك أمامك فلماذا لا تمد يدك لانتزاعه من غاصبه، بشرط أن تكون جاهزاً لمثل هذه المهمة المقدسة؟

إذا كانت كرامتك مهدورة فلن يتبرع أحد بإعادتها إليك!

إذا كانت أرضك محتلة فلن يحرّرها إلا دمك. ومن خاف أن تُعاد إليه سيناء ويخسر مصر كان محقاً.

العدو هو العدو. كان عدواً، وما زال عدواً، وسيبقى عدواً. هذا قراره، بل وعلة وجوده، إذا غفل عن هذه الحقيقة انتهى، وإذا غفلت عنها قدمت له انتصارات مجانية متوالية وخسرت مستقبلك. ليس لك مكان، يا جمال عبد الناصر، إلا في قلوب الذين هزموا بهزيمتك، وكانوا مستعدين لأن يقاتلوا بعد، حرباً أخرى وحربين وثلاث حروب. ضد عدو حاضرهم وعدو مستقبل أطفالهم، ولأن يجاهدوا ضد حكامهم، ولأن ينصروك على نظامك الذي ظل حاجزاً بينهم وبين ما تصوروه فيك، بينهم وبين عهدك الذي قصّرت في حمايته.

الذين حملوا صورتك في القاهرة أمس، ومعها صورة من يجاهد اليوم لإنجاز بعض ما أعجزك نظامك قبل عدوك عن إنجازه، وليكمل ما قضيت دونه، تبدّوا كمن غزل أحلامه صوراً ومشى بها في قلب معتقل كبير..

.. ولسنا نستعيدك لنحاسبك، بل لنتبرأ منهم. نستعيد منك إصرارك على مواصلة المعركة بعد الهزيمة، وقد جاءك كأمر لمن لا يرد له أمر: الناس الذين كانوا يرفعون صورك (وجسدك وسيارتك) لأنهم يرون فيك قدرتهم على إحراز النصر. نستعيد منك وعيك المتأخر بخطورة العدو الذي واجهت، وما زال يواجهنا وإن غابت أكثرية العرب عن الميدان، وانحاز بعضهم إليه…

تجيئنا الذكرى، يا أبا خالد، ونحن في قلب المعركة التي لم تنجزها بنصر مبين، لأن الإنجاز يكون بالشعب كله، وليس بالعسكر، خصوصاً ليس بالعسكر وحده ولو كان ماريشالاته ملائكة مطهرين فكيف إذا كانوا فاسدين بالسلطة ومفسدين؟! لا يستطيع العسكر أن يقاتل إلا بأهله وبأرضهم وتاريخهم. لا قتال بالنيابة عن الشعب. التحرير يكون بالشعب كله أو يظل قاصراً عن الاكتمال: بالشعب كله، من أبعد قرية في الجنوب إلى أقصى قرية في الشمال، من أعلى قمة في الجبل، إلى بطن السهل، ولقد قاتلك العدو في أقصى الجنوب وفي أبعد نقطة في الشمال والشرق، جبلاً وساحلاً، وفي الغرب المفتوح له المقفل عليك جميعه.

أيها الاصدقاء،

نستذكرك يا جمال عبد الناصر وقد أكدت في الأمة قدرتها على الإنجاز. أكدت الإمكان.

نستذكرك وقد وعينا أخطاءك قبل إنجازك: ليس المذياع (أو التلفزيون) بديلاً من التنظيم، وليست الحماسة بديلاً من الإعداد والاستعداد، وليس العسكر بديلاً من الشعب وليس الحزب، بما فيه التنظيم الطليعي بديلاً من الأمة: يجلس أركانه في الغرف المغلقة فيقرّرون وعلى الناس أن يتحمّلوا النتائج من دون أن يشاركوا فيشركوا في القرار.

نستذكرك اليوم يا جمال..

نستذكرك من أجل الغد، ليس من أجل البكاء على الأمس.

نستذكرك لنستمد من تجربتك الدروس والعِبَر والإصرار على الإكمال.

نستذكرك لنفاخر بعروبتنا ونلوذ بها ولو خانها أو أنكرها من لا وجود لهم من دونها.

وعروبتنا ليست كوفية وعقالاً مذهّباً، وإنما هي ارتباط بالأرض لا يتزعزع، وإيمان بهذا الإنسان الذي إن كانت له حريته انتصر على أعدائه جميعاً، إسرائيل ومن معها ومن خلفها من أبناء الهزيمة.

وها هي دولة العدو اسرائيل، تعلن في ذكرى غيابك الثامنة والاربعين انها دولة يهود العالم بعاصمتها القدس الشريف، فلا تلقى رداً ببحر من التظاهرات والاحتجاجات في مختلف الحواضر العربية وفي العالم..

بل ان الملوك والرؤساء والامراء وأهل النفط والغاز لم يأخذوا علماً بهذا التطور “البسيط”..

في انتظار عودة العرب الى وعيهم، واليك يا ابا خالد ستظل معنا شاهداً على الامكان وعلى قدرتنا لو اننا أردنا وأول الارادة: الوحدة. وعليك السلام قائداً عظيماً وبطلاً لم يقدر له ان يحقق كل احلامه.. احلامنا.

كلمة القيت في دار الندوة بدعوة من المنتدى القومي العربي في 25 تموز 2018.

 

Exit mobile version