طلال سلمان

آلام الفقرات وأوجاع الشياطين وتعثر الكلمات

لكل إنسان هفوة. هفوتي مثل معظم الهفوات وقعت في مرحلة شبابي. كنا مجموعة من شباب اختارت ذات أمسية أن تقضيها في ممارسة نشاط بريء. اتفقنا تحت إلحاح عضو في المجموعة أن نذهب إلى صالة شهيرة بمستوى اجتماعي رفيع يتنافس فيها الشباب للفوز بأعلى درجات اللياقة في لعبة “البولينج”.

كنت جديدا على هذه الصالات وبخاصة المتخصصة في هذه اللعبة. تطوعت عضوة في المجموعة للقيام بمهمة تعريفي باللعبة وقوانينها. كرات متراوحة الوزن الثقيل، تمسك الواحدة منها بأصابع قوية متوغلة في ثقوب غائرة وتقذفها بذكاء وحنكة نحو هدف ثابت. الهدف عبارة عن زجاجات خشبية أو ربما بلاستيكية متراصة تنتظر عند نهاية قناة طويلة الكرة القادمة نحوها مندفعة في انضباط وتصميم. الكرة لا تحيد عن الطريق المستقيم، أما إن حادت أو انحرفت فمصيرها السقوط في المجرى الفرعي إعلانا عن سقوط العضو المتباري وخروجه من الجولة. أما الزجاجات فمصيرها انتظار كرات غيره من اللاعبين وبخاصة هؤلاء الذين تدربت أصابعهم وأذرعتهم ومراكز الإدراك لديهم على ثبات اليد وحسن التوجيه وقوة التركيز.

أما المستجد وقليل التدريب والمتعجل الفوز فمصير كراته الانحراف بجلبة والسقوط المدوي في أحد المجريين على جانبي الطريق، هذا عن مصير كراته أما مصيره كإنسان فحكايته تلخصها حكايتي، وبتعبير أدق، حكاية عمري. حكاية بدأت بغواية من جانب أحد أعضاء المجموعة وإلحاحه على قضاء أمسية بريئة وانتهت بي ممددا على فراشي أعاني أنواعا من آلام فوق آدمية تأتي مع بداية أيام الانتقال من موسم إلى آخر.

لم نقضِ في صالة اللعب أكثر من دقائق معدودة. أذكر أنني خلال التدريب ألقيت بثلاث كرات انحرفت الأولى نحو أقصى اليمين والثانية نحو اليسار الأبعد أما الثالثة فرفضت أن تتخلى عن أصابعي واختطفتني عنوة ودارت بي حول نفسي عدة مرات قبل أن نستقر معا على أرض الملعب بين مقاعد الزبائن والحكام. أفقت لأجد نفسي في عيادة طبيب مبتسم وأصدقاء في مجموعة الأمسية الأسى غالب على قسماتهم والإشفاق ربما. همس الطبيب في أذني راجيا أن لا أتحرك كثيرا فذراعي حسب قوله كاد ينخلع ولم يتمكن الأطباء من تقدير حجم الضرر الذي أصاب فقرات سلسلة الظهر. استطاع أصدقاء لي في هذا المنتجع ترتيب رحلة عودتي إلى البلد الذي أقيم فيه وأعمل. هناك وفي مشفى كبير وحديث بمعيار زمن وقوع هفوتي شخصوا الحال وقرروا أن الراحة الفورية واجبة مع الإشراف الطبي لأسابيع وأن الانتباه والمراقبة الدائمتين مع المعاملة الإنسانية للظهر والرقبة والساقين واجبات ضرورية لعمر كامل.

صدقت نبوءة الأطباء. ظل الألم يعاودني في / أو بعد كل رحلة طويلة بالطائرة وما أكثر الرحلات الطويلة التي قمت بها وبخاصة في وقت لم تكن صناعة الطائرات تطورت. عشنا في زمن كانت المنافسة لا تزال قوية بين شركات الطيران وشركات النقل البحري. عرفت كثيرين عاملين في مهنة الدبلوماسية كانوا يفضلون السفر بحرا إذا كانت المسافات طويلة. لم تتح لي يوما فرصة السفر من الصين إلى إيطاليا بحرا أو من الإسكندرية إلى موانىء في شيلي أو الأرجنتين. قبلت السفر بالطائرة التي كانت تسمح للمسافر على خطوط بعيدة أن يقطع رحلته ليقضي يومين أو ثلاثة على نفقة الشركة الناقلة في مدينة ثالثة على خط الرحلة الطويلة. أذكر أننى تعرفت على زيوريخ وجنيف وباريس وأثينا والكويت وبانجكوك وهونج كونج وريو دي جانيرو وفيينا وبرلين وإسطنبول وداكار بفضل هذه المنافسة بين شركات النقل البحري وشركات النقل الجوي، تعرفت عليها وعلى غيرها قبل أن أقصدها خصيصا لأداء مهمة أو أخرى من مهام وزارة الخارجية وجامعة الدول العربية ومؤتمرات البحث في الشؤون الدولية والاجتماعية. أعترف أنني في أغلب هذه الرحلات لم أستفد بمتعة خالصة تشبع بعض فضولي الشخصي في السياحة أو غيرها. لم أستفد بسبب ما لاحقني وإن بشكل متقطع من آلام الظهر نتيجة السفر الطويل أو الجلوس لمدد غير إنسانية في اجتماعات أو زيارات.

آلام الظهر أنواع بعدد فقراته وعضلاته وخطوط شبكة أعصابه وربما أكثر. لن أنافس هنا الأطباء المتخصصين فهم ولا شك أعلم وأصدق، ولكني عندما أدس بأنفي فيما لم أدرسه في كتاب ولكن فيما قضيت فيه ومعه معظم سنوات عمري، يصير من حقي أن أدلى بدلوي في أي نقاش بشأنه. عشت مع هذه الآلام في كل بقاع، أقصد قارات، العالم. أذكر جيدا قسوة معاناتي للوجع وأنا مجبر على عدم مغادرة مقعدي في قاعة اجتماع ساحرة خلدت بهندستها من هندسها وبزينتها من زينها، أتأملهما بالإعجاب بينما أصغي بملل مع زملاء عديدين لخطاب رئيس دولة كتبه محرر خطب مدرب على استخدام محسنات اللغة وليس على جوهر ما تريد حكومته أن تنقله إلى مؤتمر يضم أكثر من خمسين رئيسا آخر. طلبني رئيسي المباشر بعد رفع الجلسة ليطمئن إلى أنني سجلت فحوى خطاب المتحدث، تجنبت الجواب فرئيسي المتقدم في العمر لم يتمكن بسبب آلام ظهره الانصات. لجأ إلى من هو أصغر سنا غير القادر على استيعاب خطاب المتحدث للسبب نفسه. لجأت بدوري لزميل شاب في وفد آخر، فاجأني الدبلوماسى المخضرم حين أجاب متسائلا، «لماذا اهتمامكم بما يأتي في خطب الرؤساء. لا أحد يا زميلي في هذه المؤتمرات يستمع أو يقرأ ما يلقى من خطب. كل الزعماء يقرأون ما كتب لهم ولا أحد فيهم يرد على ما جاء في خطب الآخرين. أشفقت عليك وأنا أتابع قسمات وجهك تتلوى من الألم. عرفت أنها آلام ظهر فأنا نفسي والغالبية العظمى من الحاضرين يعانون ويتألمون، كلنا ندفع ثمن اشتغالنا بهذه المهنة الرائعة».

يا صديقي، أذكر شراكتنا وأذكر أياما اجتمع فيها الأمل بالألم. لا أعرف أين صرت ولا كيف صرت. ولكني أعرف عن رحلتي. وصلت يا صديقي إلى محطة الكتابة قادما من محطة الدبلوماسية وفي صحبتي كلاهما: الأمل والألم، لا أتخلى عنهما ولا يتخليان عني ولا يفترقان. هل أزيدك من حكاياتي؟. قبل خمسة أسابيع أو أكثر انغمست في الكتابة. كنت أكتب عن تفاصيل أحداث بديعة وقعت قبل ثلاثين سنة أو أكثر. مرت ساعة وأنا أكتب، قرأت ما كتبت وبعدها قفزت من المكتب متوجها نحو المطبخ حاملا النية في منح نفسى مكافأة. شراب ساخن مع قطعة شوكولاته. كنت بالفعل سعيدا، ربما تجاوزت بسعادتي وحماستي بطء تصرفاتي وسلوكياتي إلى حد أن فقدت توازني لأقع بقوة وصوت ارتطام جسم غير بسيط الوزن بأرضية ناعمة.

زحفت كثيرا ثم استعنت بمقابض الأبواب والأدراج لأنهض، ونهضت. نهضت لأكتشف أن فقرات الظهر ثائرة بالغضب والألم. عشت عقودا عديدة أتفادى بالحذر الشديد والثقة الفائرة أن أخطئ فأرتكب هفوة أخرى في حجم وصوت هذه «الوقعة». مرت الليلة بتعقيدات عديدة وشهد اليوم التالي وصول ماكينات التصوير بالأشعة. ما أذكره بوضوح عن تلك الساعات الصعبة والطويلة قليلا وأظن ما تخلف عنها من توجيهات وقرارات لم يعكس ما عرف عن صاحبها في ظروف الأزمة من حكمة ورشادة. تولى هذه المهمة، أقصد إصدار التوجيهات، الطبيب المختص تساعده الابنتان الكريمتان اللتان عهدتا لنفسيهما بإدارة شؤون أبيهما وتولى أموره، فالأب الذؤ هو صاحب الشأن والأمر الواقع سوف يكون ولأسابيع عديدة واقعا هو نفسه تحت نفوذ وإرادة أدوية وحقن مسكنة «أو بالحق»، مواد مخدرة.

جربت الكتابة. لم أفهم بعض ما كتبت ولم أصدق أنني كتبت البعض الآخر. كشفت الكلمات وقتها عن عقل مشتت وأفكار متضاربة. أضف إلى آلام الفقرات الأوجاع اللامتناهية الناتجة عن أعمال القتل والتنكيل الجارية على مقربة من حدودنا مع فلسطين أو ما تبقى منها، إن فعلت وأضفت الأوجاع إلى الآلام كنت ستجد أمامك في البداية إنسانا غير صالح للكتابة. في النهاية أظن أنني أفلحت فيما عجز الأطباء عن تحقيقه. سيطرت على كثير من مصادر الألم رافضا الاستسلام ومقاوما بعناد وتصميم غوايات مختلف شياطين الأوجاع ومستدعيا القدرة الذاتية على تجاوز العقبات.
عدت إلى الكتابة.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version