طلال سلمان

آخر المرابطين في القلعة القديمة

“ينقلب” التاريخ في دوراته، حيناً باتجاه الصعود، وأحياناً نحو الانحدار، منحرفاً عن خطّه، فلا يعرف متى سيعود إليه، أو يُلِمُّ بما أُسِن في تلك الفجوة المتخمة بسواد مقيت، حيث تتراءى لك أشباح من سلالات ما قبل التاريخ. فيلتبس عليك المشهد، أو ترتاب في عقلك ! فقد أضعت خارطة الماضي والحاضر معاً. أنت إذاً في انقلابية مروّعة للتاريخ، ربما أهول من تلك التي توقّف عندها ابن خلدون في توصيفه خرابَ المغرب على أيدي الرعاع من قبيلَتَي هلال وسُليم. وإذ أنت في ذروة اليأس، يستبدّ بك قلق غامر ممّا سيحدث أكثر ممّا حدث، يطالعك طلال سلمان في افتتاحيّته، مختزلاً هواجسك ومحذّراً من الأسوأ، ولكن دون أن يلقي في نفسك الهلع، لأنّ صاحب القضيّة ليس من صفاته القنوط أو الانكفاء… فهو مناجد، نشأ كذلك، وعقود ثقال مرّت عليه في مهنة المتاعب لم تنل من عزيمته، أو يعدّل في خلالها من ثوابته حرفاً، أو تخفُتُ نبرة الحماسة في وعيه القومي، المؤسّس على اقتناعات راسبة في العقل، ولم يكن مجرّد طفرة تميل مع كلّ ريح.
كم هو صعب أن تكتب عن طلال سلمان في هذا الزمن السقيم، بعدما انكسر الحلم والقضيّة الكبرى غاصت في أقبية النسيان. ولكن كيف أرضخ للصعب، ولم أبرح دائرة هذا المناضل الشكيم منذ نيّف وأربعين من الأعوام، ولديّ من أسرار التجربة ما يفيض عن كتب لا عن كتاب.
فلنعد إلى مطلع السبعينات، حيث ولجتُ عالمه – مع الصديق كامل مهنا – للمرّة الأولى… كانت حلقة واسعة، ولا أذكر من روّادها سوى ” جلال طالباني ” القومي العربي آنذاك، والكردي سياسة في ما بعد. كنت مستمعاً، ولست حينئذٍ في موقع يتيح لي أكثر من ذلك. ولكن حدث أن تناول الزائر، الشاعر الجواهري بنقدٍ لاذع، فاستفزّني، وتجرّأت على التصدّي له… ثمّ ندمت وصمتّ، ولكن طلال أخذني بابتسامة، كانت مفتاح الطريق إليه. ولم يكن حينذاك طارئاً على الذاكرة، ولطالما قرأته في ” الصياد ” و ” الأحد ” و ” الحوادث “، فتى صاعداً، يمتشق قلماً ليس كالأقلام، وينثر كلاماً من نسيج آخر، ولطالما أيضاً اعتقدت أنه عامليّ المحتد، ثمّ بدا أنّ هذا التنسيب يروق له ويتفاعل معه في الأدب والتراث حتى في الجغرافية، حين اقترن بجنوبيّة، وأسّس عائلة جميلة، اختلط فيها النسب البقاعي بالمزاج العامليّ، وربما رجحت فيها سمات من الأخير.
وفي أيام الاحتلال، كنت أعبر إلى بنت جبيل من بابها الشرقي، متخفياً أكثر مني ظاهراً… وكانت ملاذي حينذاك، مكتبة يحتشد على بابها جمع من الناس، في انتظار ” السفير “، فإذا ما وصلت تلقفتها الأيدي. وسرعان ما حطّت عيونهم ” على الطريق “، وقد لاذوا بالصمت، لا يتوسّلون فقط التحليل السياسي، ولكنّ مشاعرهم ذائبة في أدبه، وهم، في مختلف مستوياتهم الثقافيّة، ذوّاقة لهذا النمط الذي يتقنه طلال ولا يجاريه فيه أحد من أهل الصحافة.
و”جنوبيّة” طلال تتوهّج أكثر حين ينداح المدى جنوباً إلى فلسطين، قضيّته المركزيّة، ومحور تكوينه القومي الرسالي، وميزان الذهب الذي يقيّم الأفكار والمواقف، ويدقّق يومياً في الأصيل والهجين، والهاذرون البارعون على المنبر هم أسوأ رجالها، فكَم من مرّة غيّروا وجوههم، وغادروا حتى من دون دعوة، الثورة إلى سلطان المال. ما أشقّ ذلك على طلال، وهو ما انفكّ يعطي فلسطين قلبه وعقله وقلمه ولسانه، مسكوناً بقضيتها حتى الجمام، وما انفكّت “السفير” تبتدع الطرائق لكي تبقى في العقل العربي (أقصد الشعبي)، قضيّة نضاليّة وتراثيّة، من المخيّم، إلى القدس، إلى الناصرة، فغزّة، وكل حبة تراب نزفت دماً في أرجائها.
وفي الوقت الذي باتت فلسطين ترفاً، أو لغواً أو قصيدة أندلسيّة حزينة، كان ملحق خاص بها يصدر شهريّاً عن “السفير”، بتمهيد من طلال، ومشاركة كتّاب اختصاصيين في السياسة والمقاومة والأدب والاقتصاد والاجتماع… إلى استذكار رموز غادروا، وتركوا دمغة من دمهم أو حبرهم في حقول الزيتون والبرتقال أو على ضفاف “طبريّة”، الواقعة في منتصف الطريق بين دمشق والقدس، حيث كانت “حطين” وأخوات لها في هذا المكان، وحيث كان للجهاد معنى قدسي، مطابق للفتوح الكبرى في الإسلام… والقادة حينئذ يقرّرون متى يجب الجهاد والفقهاء وراءهم يقاتلون ولا يفتون.
هكذا طلال سلمان في طلعته الشاهبة، صحافياً تلمّذ على كبار في بيروت والقاهرة، فأتقن المهنة، ولكن بفرادة، لم يرقَ إليها أحد، ليصبح في ما بعد، الصحافي الأول، وتتكرّس “السفير” الصحيفة الأولى، متميّزة بصفاء الموقف، وصدقيّة الخبر، وعمق التحليل. وهي عناصر تتآلف معاً دون تكلّف، أو تجديف في السياسة، أو انحدار إلى سفاسف القول…
كلّ هذا و “أبو أحمد” وراء مكتبه في أتمّ أناقة، وقد عاد لتوّه من اجتماعه اليومي، مناقشاً الزملاء في مادة العدد القادم من “السفير”… وقليلاً ما نرى القلم في يده، فذلك له وقت آخر، ومتى حان تفجّر كنبع، ثمّ يهدأ من تلقائه بعد أن بلغت الفكرة نهايتها، والجملة الأخيرة وقفت حيث يجب أن تقف.
إنها ظاهرة الغزارة والإبداع في آن، ومَلَكَة من فردات طلال الذي يكتب، وقد لا يمكن رصد كل ما يكتب في أسبوع: فعدا الافتتاحيّة، يخفي اسمه وراء “المحرّر السياسي” حيث يستدعي الموقف، في الصفحة الأولى، ثمّ يحطّ في “واحته” عازفاً عن السياسة إلى “الهوامش” الخلاّبة في “السفير الثقافي”، قبل أن يفاجئك بمقالة ضافية في الصفحة قبل الأخيرة، تنشر في الوقت عينه مع “الشروق” القاهريّة، من دون أن تعفيه المناسبات من المشاركة، محاضراً أو منتدياً، أو من مرثية لفقيد قد لا يعرفه غيره في بعض الأحيان. كلّ ذلك يتداعى أسبوعاً بعد أسبوع، والكثرة لا تنتقص من العمق، أو من سحر الكلام أو من فتنة الصورة. كما من لون الحبر وأصالة العقيدة وثبوت المبدأ والاقتناعات، لعلّه آخر المرابطين في القلعة المهجورة، بعد تقاعس المدافعين عنها، والتحاقهم بأخلاط المرتزقة المتنكّرين لتاريخهم، والخاذلين لأمّتهم التي استباحها عابثون من كل نسب وجنس، يرطنون بلغة من خارج التراث.
لقد كتبت كثيراً عن طلال سلمان و “سفيره”، وما فارقني شغف الكتابة في هذا المقام… فمن كان مثلي عميق الجذور في صحيفة ما انفكّت منذ ولادتها صوت الأحرار في العالم العربي وما بعده، ليست تخفي عليّ أسرارها، خصوصاً تلك الديناميّة المتوهّجة، وهي لكل من المحرّرين فيها نصيب، كما لكل منهم مملكته التي يدير شؤونها، ولا يحرص دائماً على تطابق رأيه مع توجّهات الصحيفة وناشرها. وهي بهذا المعنى منبر مفتوح للقيّمين فيها، والخارجين منها، والعائدين إليها، والمتردّدين على ضفافها.
يبقى أنّ طلال سلمان، هو “المرشد” والأنموذج و “صاحب الطريقة” الجميلة في الأداء، والفضل في الارتقاء إلى الموقع المُستحقّ، إلى ذلك، فهو يستلّ لغوب نهاره من فتون ليله، فاصلاً كليّاً بين هذا وذاك، عاشقاً للفنّ والطرب وكلّ ضروب التراث. فمَن لديه حلقة الدبكة أرفع رتبة من مقامات سلاطين السياسة، ومن يرى في غياب الفارس “أبي يحيى” وكان عموداً بعلبكياً هوى، فيرثيه بهذا القدر الكبير من الحزن، لا نتساءل حينئذ كيف أنّ المزاج الجميل يُحصّن العقل من وباء النفاق ويرفده بجرعات من الإبداع. ويبقى أيضاً الوفاء من شيم طلال، الوفاء لقوميّته، لعروبته، لوطنيته، لتراثه، لبلدته وأترابه، لجنوبه ومقاومته، لأصدقائه وجلاّسه. فلم يخفر ذماماً، ولم يمرج عهداً، ولم يهادن في الصغائر والكبائر.
مبارك لك أربعونك “السفيري”، فهو زيادة في شبابك، وجولة لا بدّ من أن تكون مظفّرة في القادم من الأيام.

ابراهيم بيضون

الطريق، 192013

Exit mobile version