طلال سلمان

يجددون آمالهم بعد انحسار وتشاؤم

أوروبا أحسن حالا بفوز ماكرون في انتخابات الرئاسة الفرنسية ثم أحسن وأحسن بفوز حزب ماكرون في الانتخابات التشريعية. أقرأ هذه العبارة متكررة في كتابات المتخصصين في الشؤون الأوروبية، أقرأها متكررة وأبقى حذرا في توقعاتي لمستقبل أوروبا. منشأ حذري كامن في رحلة الشهور وربما السنوات الأخيرة في حياة منطقة اليورو وربما الوحدة الأوروبية بشكل عام. ففي تلك الشهور وربما السنوات مرت أوروبا بصعوبات تجاوزت بعضها وبقيت عاجزة أمام أكثرها. تعرضت لمشكلات ناتجة عن اختلاف معدلات النمو الاقتصادي وبخاصة حين استعادت الذاكرة الشعبية ذكريات تقدم دول الشمال وتخلف دول الجنوب وترجمة هذا التفوق سياسيا في هيمنة ألمانية دمرت أوروبا. صحيح أن الوحدة الأوروبية كانت مهددة ومسارات الاستقرار السياسي والاجتماعي في عدد متزايد من الدول الأوروبية أصابها ارتباك وربما ما هو أخطر إذا أخذنا في الاعتبار نمو الحركات الانفصالية. صحيح أيضا أن أوروبا صمدت، وهي بالفعل أحسن حالا ولو قليلا.

***

الصعوبات قائمة وبعضها ينذر بالتفاقم، وهنا تأتي أهمية التعليق بأن فوز ماكرون ثم تأكيد هذا الفوز بفوز حزبه جعل أوروبا تشعر بأنها أحسن حالا، بمعنى أنها لا تزال على استعداد لمقاومة الصعوبات؛ صعوبات الاندماج كثيرة وفي مقدمتها كما أشرت، اختلاف درجات النمو الاقتصادي وفي بقية القائمة التمرد على العولمة مثلا. هذا التمرد بالذات يعني أن هناك نقصا في شعبية الوحدة الأوروبية ومؤسساتها وقياداتها. كان أهم مظاهر هذا التمرد انتعاش حركات التطرف القومي خاصة على الناحيتين اليمينية واليسارية. كثيرة أيضا أسباب هذه الصعوبات وبعضها كما قلت يهدد بالتفاقم.

***

أول سبب جديد يعرض نفسه علينا ظهور دونالد ترامب على مسرح السياسة في الولايات المتحدة ومن هناك إلى المسرح العالمي. قاد الرجل منذ الأيام الأولى لحملته للحصول على منصب الرئيس حملة موازية ضد الاتحاد الأوروبي باعتباره صار رمزا عملاقا لفكرة العولمة ومسيرتها. لا أحد في اوروبا قلل من أهمية وخطورة الحملة الترامبية ضدها؛ لأنه لا أحد فيها استهان بموقع أمريكا في السياسة الدولية وفي التجارة بين الدول. شن ترامب حرب تصريحات، أعقبها فور دخوله البيت الأبيض توقيع وإصدار قرارات تمس بالضرر مبادئ حرية التجارة ومستخدما إجراءات وأساليب مشتقة من تراث الفنون «الشعبوية» سواء تلك التي بشر بها ومارسها الرئيس الأمريكي جاكسون الأب الروحي للرئيس ترامب أم تلك التي أبدعت فيها أوروبا في مرحلة ما بين الحربين العالميتين. كان ترامب، في رأيي ولا يزال، أحد الفاعلين الأساسيين في تشجيع قوى التطرف السياسي وبخاصة القومي والانفصالي في أوروبا، وفي إثارة أو تفاقم مشاعر الخوف من المستقبل.
من الأسباب الجديدة القديمة أيضا هذه الأجواء السياسية المخيمة على العالم وبخاصة على القارة الأوروبية. إنها أجواء كأجواء الحرب الباردة التي هيمنت على أوروبا لعقود عديدة. ليس خافيا على الأوروبيين رغبة روسيا في إضعاف الاتحاد الأوروبي وبخاصة بعد أن تدخلت فعليا للتأثير في أوضاع دول أوروبية بتشجيعها قيادات وحركات مناهضة للاندماج في أوروبا موحدة. اجتمع ترامب وبوتين على كراهية شديدة لوحدة أوروبا. هنا تجاسر الوحدويون الأوروبيون وأعلنوا بلسان آنجيلا ميركيل أنهم وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يفكرون في إقامة نظام دفاعي وتكاملي يعتمدون فيه على أنفسهم. بمعنى آخر يبدو أن بعض قادة الاتحاد الأوروبى صاروا مقتنعين أن أمريكا في عهد ترامب قد تتحول إلى خصم، أو على الأقل، تنعزل كقوة عظمى تمثل الغرب الأقصى وحده، أى تمثل الأمريكتين مبتعدة ما أمكنها عن أوروبا بمشكلاتها ومنها ليبراليتها، هذه الأيديولوجية التي ما زالت تحاول نشرها في العالم على غير رغبة روسيا في ظل حكم الرئيس فلاديمير بوتين وبغير رضاء أمريكا في عهد الرئيس دونالد ترامب.
كان ترامب واضحا بقدر ما كان عنيفا عندما ألقى الأسبوع الماضي بخطاب مشهود في فلوريدا ولايته المفضلة خصصه لكوبا. هذا الخطاب حمل معاني مهمة وبعث برسائل مختلفة، لم يحمل أو يبعث بمثلها خطاب آخر حديث العهد أيضا، وأقصد تحديدا الخطاب الذي ألقاه في الرياض. في خطاب فلوريدا يؤكد ترامب للعالم كله وبخاصة للأوروبيين ولشعوب أمريكا الجنوبية أن «أمريكا أولا» تستدعي عودة قواعد وأساليب الهيمنة الأمريكية الكاملة على الأمريكتين. كوبا كانت ملكا خالصا للولايات المتحدة وها هو ترامب يصوغ خطابا موجها لحكام وشعب كوبا، بكلمات ومعان ولهجة إمبريالية. تلقف الرسائل المتضمنة في الخطاب حكام وقادة الحركات السياسية في أمريكا اللاتينية وحكام وأحزاب ومؤسسات الوحدة في أوروبا. تصاعد القلق.

***

غريب موقف أمريكا من روسيا. رئيس الدولة في أمريكا لم يخف منذ كان مرشحا حتى صار رئيسا، وإلى حد كبير حتى الآن، أنه يسعى لتفاهم مع روسيا. يريد علاقات طيبة ولا يستمع بالاهتمام التقليدي إلى تفاصيل الحالة الأوكرانية وتوسع النفوذ الروسي في الشرق الأوسط. أكاد أكون فهمت أنه في عصر الصفقات المالية والانحدار الأمريكي لا أمن أوكرانيا ولا أمن الشرق الأوسط يهم الرئيس الأمريكي طالما استمر تدفق الأموال والاستثمارات والعقود التجارية في الإقليمين على أمريكا. الغريب أو المثير هو موقف «أمريكا الأخرى»، أمريكا التي يمثلها الكونجرس والمؤسسة العسكرية. ألاحظ مع كثيرين أن هاتين المؤسستين وإن لم تعترضا بشدة في العلن على سياسات الرئيس وعواطفه تجاه روسيا ومصالحه فيها، يحاولان انتزاع سلطات من الرئيس تسمح لهما بالاستمرار في تصعيد التوتر والمواجهة مع روسيا. لا الكونغرس ولا العسكر الأمريكيين مستعدون للتخلي عن سياسات الحرب الباردة، المؤسستان لا تخفيان انعدام ثقتهما بحكام روسيا. هؤلاء الحكام، وبخاصة فلاديمير بوتين وجماعته القادمان من وكالة الاستخبارات، ما زالوا مؤمنين بما تلقنوه في الوكالة من كره لأمريكا تماما مثل ما تلقنه عملاء الاستخبارات الأمريكية من كره لروسيا. نعيش، ومعنا متخصصون أوروبيون، أياما كدنا نتفرغ فيها لمراقبة وضع خاص للعلاقات الروسية والأمريكية. الدولتان تمارسان أساليب عتيقة من عصر الحرب الباردة مثل الحادث حاليا مع كوبا وأوكرانيا ودول البلطيق وأساليب أحدث كثيرا مثل اختراق شبكة أعصاب المعلومات في الدولتين، وفي الوقت نفسه نراقب رئيسا للدولة الأعظم يداعب ويدغدغ حواس الدولة الخصم ويعد بوفاق تاريخي. وفي النهاية وبسبب ازدواجية السياسة الخارجية الراهنة في أمريكا، نجد أنفسنا الآن أمام أحوال ارتباك عظيم كالحال في سوريا وحال العلاقات المصرية الروسية وحال الأمن القومي الأوروبي وأمن الشرق الأوسط وحال الأوضاع في منطقة جنوب شرق آسيا، وإلى حد أقل، حال إقليم الخليج.

***

أوروبا أحسن حالا بفوز ماكرون المزدوج. أدى هذا الفوز بشكل من الأشكال إلى تجديد في آمال الأوروبيين الوحدويين أن تقوم في أوروبا قيادة قوية. الحاجة ماسة كما يقول أهل الاختصاص في أوروبا إلى فرنسا قوية تدعم ألمانيا القوية في مواجهة مصادر الخطر والتهديد للوحدة الأوروبية. يأملون في جبهة فرنسية ألمانية تواجه في وقت واحد تأثيرات ترامب وتدخلات بوتين، وتتصدى إعلاميا وسياسيا للقوى المتطرفة والانفصالية، وتتصلب في المفاوضات التي بدأت قبل ثلاثة أيام مع بريطانيا حول الخروج، وتجمع كلمة الدول الأوروبية حول مسائل التعامل مع مهاجري القوارب واللاجئين. يأملون في قيادة تقود مرحلة اعادة تعريف الهوية وإعادة النظر في سياسة التعددية الثقافية ومنع الصدامات بين الأعراق والطوائف والعمل على تهدئة النفوس ومقاومة العنف.
فاز ماكرون وجاء دور آنجيلا ميركيل.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version