طلال سلمان

“يا شعب لبنان العظيم؟”

ابحث عنه فلا أجده. فلا لبنان جدير بالعظمة، ولا شعبه يستحق هذه الهالة من العظمة. هو شعب عادي، او أقل. يجيد البهورة، تعويضاً عن نقص.

كثيرة الشعوب المغلوبة على أمرها. تعيش وطأة انكسارها، فتعبر عن مأساتها، اما ببكائيات حقيقية، او برفع القبضات تحدياً. هذا ليس عيباً أبداً.

لبنان، كلما ازداد انحداراً وتحطماً وتراجعا، ارتفعت رتبة عظمته، مستعيداً اسطورة الفينيق. بلد مسدود الأفق، بلا أمل، مأزوم دائم، تتحكم به طغمة تتساوى في الارتكاب، وتتنافس في الفساد، ومع ذلك، “فشعبه العظيم هذا” أعاد انتخاب القيادات والتيارات والتشكيلات نفسها. لقد زحف هذا “الشعب العظيم” في ولاءاته المبرمة، لتجديد الطبقة السياسية، صاحبة اليد الاطول في جعل لبنان، بلد الكذبة الكبرى: بلد “الشعب اللبناني العظيم”.

أحيانا، تجتاح اللبنانيين موجة تسومانية، فينصرف إلى تمجيد ذاته إلى حدود الانتفاخ. والطوائفية قابلة للانتفاخ أكثر وللتمدد ايضاً. من قبل، كانت الطائفية على قياس النظام وزعاماته المحلية، وكانت الشعارات متواضعة جداً، باستثناء ما ومن كان على مذهب الشاعر سعيد عقل. يحق للشاعر ما لا يحق لغيره. يقيس البلدان بمقياس المخيلة الواسعة. أما في السياسة فوحدة القياس، ليست الكلمات، بل الانجازات. وانجازات القيادات الطائفية المتعاقبة، سيل من النكسات والاخفاقات، في سياق عمليات نهب منظم، وسرقات موصوفة، واستدانة اغرقت “شعب لبنان العظيم ” في ديون، يرثها الاولاد والاحفاد والى اجل غير مسمى.

“شعب لبنان العظيم”، كذبة. أولاً، لأن للبنان شعوباً بعدد طوائفه ومذاهبه. وهي شعوب متنابذة، تفتك ببعضها فتكاً مبيناً. تختلف في كل شيء، باستثناء الاتفاق على “البقر الحلوب”. ولبنان، حتى بعد مئة عام على ولادته، بالكاد يكون دولة. هو مجموعة دويلات، ولكل دويلة “شعبها العظيم”.

وبرغم المعرفة المسبقة بعلل لبنان، مال البعض إلى تصديق هذا الشعار، خاصة وان حامله، كان تياراً مهجراً لم تتلبسه تهمة. لما عاد، زحفت طائفته لاستقباله، وعلامة استفهام عَلَت وجوه أراخنة السياسة المزمنين. خافوا منه. اتحدوا ضده. خاضوا معركة انتخابية لتحجيمه. فشلوا. بدا التيار جارفاً، محاولاً القفز فوق حدود الطوائف المحصنة. علمانيته ترددت على شفاه كثيرة. ثم …تلبنن التيار. أو بالأحرى، تمورن جداً. صار يحكي بالطائفية كأنها ركن من الاركان المقدسة. لم تسعفه الطائفية الباهتة. عقدن الطائفية. صارت من المقدسات، ويلزم أن تكون محمية جداً. ولا حامي لها، غير الأقوياء. معضلة فلسفية. كي نحمي الطائفية عليها أن تحمينا. من هو الماروني القوي؟ من هو السني القوي؟ من هو الشيعي القوي؟ من هو الدرزي القوي؟ وهكذا، استعادت الطائفية “صفاءها” السياسي، وبات الشعار: “يا شعوب الطوائف العظيمة”. والغريب، أن المأثور يقول: ويخلق من الشبه اربعين. عندنا، “يخلق من الشبه اربعة”. وها هو لبنان في قبضة الاربعة الكبار، مع فتاتٍ تلقى لمن وما تبقى من الطوائف المستورة الحال.

فاجعة لبنان حدثت، بسبب تصديق الشعار العظيم. حلموا بفارس قادم على فرس ابيض. سريعاً، خفت البريق، وبدا الكلام الجديد صدئاً جداً.

سبب هذا الكلام ليس مرسوم التجنيس الخبيث. انه نتيجة مسار لتيار، قرر أن يخلق للطائفية الصارمة نموذجاً يحتذى، فاحتذته الطوائف كلها.

امر معيب جداً. التجربة برهنت أن القليل من الطائفية كان مضراً، فكيف اذا صارت الطائفية هي السياسة والكيان والاقتصاد والادارة والمال والفساد والعهر والصفقات الخ..؟

تواضعوا قليلاً. هذه النتيجة التي بلغتها العبقرية الطائفية الحديثة، ما كان لها أن تنجح وتعم الدولة، لولا “هذا الشعب اللبناني العظيم”.

تواضعوا قليلاً. هذه هي قيادات لبنان، وهي مستعدة لعقد صلح متى شاءت، ولعقد تفاهمات متى شاءت، ولعقد تسويات متى شاءت. لا جديد في ذلك ابداً.

فيا شعب لبنان العظيم، ليست مدحاً لك، بل هي تهمة ضدك. فانت لست شعباً، ولبنان ليس دولة وعظمتك تحت نعال قادتكم.

 

 

Exit mobile version