طلال سلمان

وللحب تجليات

زرت إدنبرة مرات، ومن كل مرة خرجت بتجربة أكثر ثراء. زرتها أول مرة ولم أتجاوز منتصف العشرينيات من العمر. أحب هذا العمر ففيه الخيال خصب والتاريخ نصف حي والفضول شديد. أسكتلندا كانت تعني في ذهن شاب مثلي أشياء كثيرة. تعني الإقليم الذي أخرج للعالم أعتى المستعمرين الغربيين وأقواهم مراسا وعشقا لبريطانيا العظمى. تعني أيضا المياه الوفيرة دائما والأمطار الغزيرة بعض الوقت والسحب الرمادية معظم الوقت والخضرة ذات النكهة الخاصة طول الوقت.

خرجت من إدنبرة في سيارة مع صديق تمتلك عائلته أراضي، يقول عنها إنه لم يعرف يوما حدودها. كان غرضه من رحلة ذلك الصباح أن نتجول في بعض المدن الجبلية وبعض المدن النهرية في طريقنا إلى القلعة التي يقيم فيها أهله. توقفنا مرتين، مرة لأمتع العينين والأنامل بمنظر ونعومة منتجات الصوف الأسكتلندي في محال صغيرة وأنيقة، ومرة أخرى في منطقة يلتقي عندها نهران. هناك ساد الظن لقرون عديدة أن وحشا هائل الحجم يصعد من وسط الماء. تروى رواية أنه كان يصعد ليخطف الفتيات، وتروى رواية أخرى أنه كان يصعد ليؤكد لملوك إنجلترا أنه هنا في أنهار أسكتلندا جاهز دائما ليحميها من اعتداءاتهم المتكررة.


راح صديقي ليأتي بالسيارة التي تركناها على مدخل الشارع الرئيسي في هذه القرية المبتلة ولكن المبهجة بألوان زهورها ونظافة شوارعها. فكرت أن أنتهز الفرصة وأدخل إلى مقهى صغير أدلل فيه نفسي السعيدة بهذه الرحلة بفنجان من القهوة المركزة. طلبت القهوة وفي الانتظار تجولت بِعَيْنَىيَّ في أرجاء المكان، في اللوحات المعلقة والثريات القماشية البسيطة والموائد الصغيرة بمفارشها داكنة الحمرة. هناك في الخلف رأيت بابا موصدا زجاجه يعلن عن وجود موائد أخرى في حديقة خلفية للمقهى. استأذنت صانعة قهوتي فأذنت. مشيت إلى الباب وفتحته. دخلت إلى الحديقة الجميلة وشعرت على الفور بلسعة برد حلوة، أم كانت لسعة شيء آخر غير البرد. نظرت مرة أخرى في جهة مصدر اللسعة. هناك كانت المفاجأة، تفاجأت بالموقف ولم أتفاجأ بما رأيت أو بمن رأيت.


عدت إلى أسكتلندا مرات عديدة وفي أوقات متباينة. كذلك لم تنقطع زياراتي لأصدقاء قريبين جدا في دول عربية كانت شقيقة ولا تزال. أزور المغرب وتونس والخليج وبلاد المشرق التقى أصدقاء وأقرباء أعرف بعضهم منذ سنوات شبابنا. ألتقى أيضا معارف تعرفت عليهم قبل سنوات قليلة وتوثقت الصلات ببعضهم. دخلت بيوتا كثيرة في مصر كما في الدول التي زرتها عابرا أو أقمت فيها. وجدت في كل بيت، أو في معظم البيوت، حكايات تستحق أن تروى وحكاية واحدة لا تروى حتى وإن استحقت أن تروى. حاولت مرارا التغلب على عوائق «الحكي» بأن أتدخل في الحكاية بإجراء تغيير في بعض تفاصيلها. نجحت في أحيان وفشلت في أحيان كثيرة. فشلت في كل مرة كنت متأثرا عاطفيا بالتفاصيل. أنا أيضا بشر. أنفعل بما ينفعل له غيري من الناس. أحيانا أقع على «تفصيلة» لأكتشف بعد قليل أنها نواة الحكاية وجوهرها فإن تغيرت لم تعد هناك حكاية لتروى. حينذاك يغالبني الإشفاق على أبطالها أو على مسرحها أو على روعة المشاهد والأفعال والمشاعر، يغالبني حتى يغلبني فأمتنع ولا أحكيها.


تناولنا عشاء متأخرا قررنا بعد الانتهاء منه العودة إلى غرف نومنا فلم يتبق من الليل ولا الحديث ما يستحق السهر أطول مما سهرنا. لم أجد في جسمي الطاقة اللازمة لخلع ملابسي فاستسلمت للتعب وألقيت بنفسي على الفراش بملابس النهار. كدت أغفو لولا أن رن جرس الهاتف. رفعت السماعة وجذبتها نحوي بيد مترددة. وصلني صوت المتحدثة والسماعة ما زالت في منتصف الطريق. «حط أي شيء عليك وتعالى، نحنا ناطرينك بالجناح اللى بآخر الطابق». انتفضت الطاقة. وجدتني في دقيقتين أغلق باب غرفتي وأقف لأجلد ذاتي المتقدمة في العمر التي جعلتني أنسى الاستفسار من محدثتي عن رقم الجناح. أعفاني من جلد ذاتي وقوف محدثتي في نهاية الطابق من ناحية اليمين تشير لي بالتوجه نحوها. مشيت بخطوات ثقيلة فرضتها حالة جسد أرهقته السنين ويوم عمل طويل لأجد سيدة تقدم بها العمر تترك باب غرفتها فينغلق بينما أقبلت تمشي نحوي بتثاقل واضح وقد فتحت ذراعيها تبشرني بحضن كبير. اتجهنا نحو الجناح لينفتح الباب ويستقبلني (رجل تقدم بدوره في العمر). ليجرني بيده إلى مقعد وثير وباليد الأخرى يجر شريكته لتجلس بجانبه. جلست لكن بعد أن انحنت تقبل رأسه المتوج بشعر أبيض كثيف.


قال برهان بعد أن اكتمل واجب تقديم الشراب وما يصاحبه «أترك لك يا راضية مهمة إدارة الحديث، فأنا أول من يعرف مكانة هذا الرجل (الختيار) عندك منذ عملتما معا في أحد المشاريع البحثية وكان شابا في منتصف العمر. نظرت راضية إلى برهان نظرة تذكره بأنه كان مثلها في ذلك الحين مراهقا. ثم نظرت ناحيتي لتقول: «إنما أنت الذي أوحيت لنا برسالة حفظناها وحافظنا عليها. أنت الذي كنت تنصح الشباب، كل الشباب، بألا يضيعوا فرصة حب. كنت تقول: طوروه، عدلوه، وقروه وبجلوه ولكن لا تهينوه يوما أو تتجاهلوه أو ترتكبوا المعصية الكبرى، أن تئدوه حيا. لأنكم إن فعلتم فلن يغفر القدر لكم. لن تناموا ما حييتم نوما هادئا. لن تعرفوا سعادة مكتملة ولن تصدقوا أولادكم النصيحة المخلصة».

«لا شك أنك تذكر ما حدث لنا في مكتبك. وقعنا في الحب عندك. شجعتنا. أذكر وبرهان دائما يذكرني بأنك كنت تفاخر بحكاية حبنا كل حكايات الحب السائدة وقتذاك. وعندما قرر الأهل التفريق بيننا وكانت لهم أسبابهم القوية لم تتخل عنا. كنت تقول إن ثقتك في قوة الحب لا حدود لها، وأننا سوف نجد الحلول المناسبة. وبالفعل وجدنا أكثر من حل. من هذه الحلول أننا تعهدنا أمام أنفسنا أن نلتقي لمدة يومين متصلين في تاريخ محدد لا يتغير مرة كل عام، وأن أتولى بنفسي التخطيط لهذه الرحلة ووضع الضمانات المحكمة بكل الإتقان الممكن لمنع تسرب خبر عنا والحرص على تفادي فرص الالتقاء بمعارف أو أقرباء. نجحنا على امتداد خمسين عاما. لم نخطئ مرة واحدة. الصدفة تدخلت مرتين ومعك أنت بالذات، مرة في أسكتلندا والمرة الراهنة في قبرص. الظرف القاهر تدخل أربع أو خمس مرات ليحرم واحدا منا من السفر فكان الآخر يذهب ويقضي اليوم في المكان المحجوز.


التقينا في أكثر من أربعين دولة. زرنا جميع القارات. تجاوزنا عقبات لن تصدق كم كانت شاقة ومحرجة وقاسية. وها نحن وقد دخلنا عقد السبعين من عمرنا نشهد بأننا لم نبخل بالحب على عائلتينا ولم نساوم على حبنا. ليطمئن قلبك أكرر أننا لم نخطئ ولن نخطئ. عشنا خمسين عاما بالحب وفي الحب سعداء. نتعهد الليلة في حضورك أننا سوف نلتقي في موعدنا المعتاد حتى آخر يوم، ونعدك بأننا سوف نعيش السنوات الباقية من عمرنا سعداء بالحب وفي الحب الذي تراه».

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version