طلال سلمان

وريقات سابقة كتابتها على ميلاد السيد فالنتين

هذه رسائل قديمة كتبت لمن فقدت عناوينهم وسجلتني ذاكرتهم مفقوداً.

ولقد نفضت عنها صدأ الأيام بعدما صار للحب عيد. قلت: لك أن تلبس اليوم الزاهي من أثوابك العتيقة، ولكن…

أوليس الحب هو العيد؟!

من يحب من خلال وريقات الروزنامة؟

هل يستأذن الحب، وهل يجلس في قاعة الانتظار إذا ما وصل طائره مبكراً حتى تدق الساعة موعده فيدخل وعينه على العقربين حتى لا يتأخر في المغادرة؟

هنا وريقات سابقة على ميلاد السيد فالنتين..

* * *

قبل الثلج وبعد الزمن..

كأسير حرب وقفت خلف النافذة أرقب انهمار الذكريات نتفاً نتفاً كالثلج المندوف المتهاوي نحو قعر سحيق.

الصمت ولود، وللأفكار ضجيجها وعبق التمني، وملامحك تتكامل في الذاكرة المكدودة بصعوبة: هل أبقى منها الزمان مثل ما أبقى مني أم باعد ما بيننا فجعلنا على ضفتين يربط بينهما ما يفصلنا؟

الرحلة طويلة والماضي لا يستعاد، لكن أشياءه الحميمة تهمي بصمت، كالرقاع الباردة البيضاء التي أنزلها الريح من حالق ونثرها بياضاً باهتاً ومؤقتاً ستذهب به حرارة اللون بعد هنيهات.

على حافة النافذة يمامة تستذكر الهديل همهمة حتى لا تنساه، وأقرأ في النبرة الشجية اسمك وملاعب الصبا المزركشة بأحمر زهر الرمان والبياض الناصع لأطباق الياسمين ورنين الجرس المعلق في عنق الثور الأزرق.

ركضت أداري رنين الجرس وكأنه الفضيحة،

ولست أدري هل كنت أتعجل اللقاء أو أتعجل نهايته وإعادة إقفال الجراح التي أطفأها الصدأ واليأس وبرودة الأيام المتشابهة كما الرماد.

اندفعت واندفعت وانسحق في ما بيننا التساؤل الموجع: هل ما زلت فيك؟ هل ما زلنا نحن؟!

لم يستمر حريق العوسج الهش طويلاً. ذهبت النار سريعاً وانتشر الدخان كثيفاً يحجبك ويعيدك إلى منفاك البعيد. لم تعودي أنت، ولن تجديني فيَّ.

همنا زمناً بين عالمين أولهما فَقَدَ أجنحته ولم تعد به قدرة للتحليق عبر الوقت، وعبر الأفق المقفل بثلوج الأوقات المنسية، وثانيهما مفتعل وعارض وأضعف من أن يصمد إلى ما بعد ذوبان الثلوج وصعود اللون ثانية إلى أوراق الشجر البري.

في اللحظة ما بين هباء الرقعة البيضاء واندثار القطرة العمياء، تعثرت الكلمات ثم انهارت لتذوب في أتون الرغبة المستعرة بين الثلجين.

الثلج ما زال يكتب اسمه في الفضاء السديمي بطبشور يمحي ذاته قبل اكتمال المعنى، والنافذة ذات الزجاجين ما تزال مقفلة تحجز همهمة الهديل في صدر اليمامة،

من أين تسلل كل هذا الجليد إلى العيون والآذان وأنفاس العائدين إلى افتراق يستحيل قطعه بالكلام أو وصله بالصمت؟!

قلت تحاولين إعادة الاعتبار إلى الماضي:  جميل أن واحدنا قد ودع الآخر، أخيراً. المواعيد لا تبدل الأزمنة.

قبل جيلين من الثلج انطفأنا.

أنطلب النار التي سكنت فينا من صقيع المدينة البلا قلب؟!

ناطحات السحاب تشمخ متسامقة نحو منابع الثلج في حين تهوي بنا أنفاسنا إلى النهر المتجمد تحتنا.

وحين أقفلت الباب خلفك على الزمن، طارت اليمامة هاربة من برودة الغرفة المعلقة في مكان يفتقد اللون وفي زمان يفتقد أهله.

بعد الزعتر، قبل الخوف..

تعدين وأعدو خلفك ويعدو الزعتر متوغلاً في الوعر.

تخدشنا غيرة الشوك وتتناثر قطرات الدم وأزرار القمصان على الصخور المدببة الرؤوس فتصير دليلنا في الرحلة التالية إلى مهجع الحلم.

تفضحنا الخدوش، لكن اضمومة الزعتر تنثر شميمها فترجئ الحساب: أنهما صغيران لا يعرفان. كأي شقيين تباريا في التقاط لون الفراشة وعطر الأرض. مبكرة تهمة الحب عليهما.

والزعتر هو الحب.

والزعتر بريء مثلنا.

خدك في نعومة وريقاته ذات الزغب، وعطره كرائحة جسدك.

أنفاسك لهيب، وشفتاك قاسيتان، ولك ألف يد،

أحمحم، تتهاوى الحروف متباعدة فلا أسمع مني إلا تأتأة تضيع عبرها الكلمات، وأحاول التعويض بالحركة.

لماذا، متى حضرتِ يهرب مني الكلام أو تنحبس في حلقي، وإذا ما غبتِ ملأتْ عليَّ الأفق وتعثرتُ بها في كتب الدراسة وتسلى بها المعلم وهو يصحح دفاتري؟!

لكم أغدو ثرثاراً وأنا أحادث طيفك وأحاور نفسي عنك وإباهي أقراني بتفوقي بك. أسافر في ظلال عينيك وأقرأ فيهما ما لم أعرف أبداً كيف أقوله.

أتكتب إليَّ وبيني وبينك مقعدان؟!

هل قرأتني؟! لقد لمحت حبي يطوف كغمامة عطر في سماء الصيف، وسمعت في الضحكات القصيرة المهموسة إسمي.

* * *

ألم تعلمني أن الحب لا يحجز ولا يقع في الأسر، وأنه ليس سراً يطمس أو يخفى وإن داريته، بل هو كشميم الزعتر والزهر البري ونور الشمس؟ من يستطيع محاصرة العطر؟! ومن يرغب في أن يكون وردة ميتة بين دفتي كتاب؟

نعدو مصعدين في اتجاه أعلى المغارات. نطل على القرية الهاجعة في السفح كامرأة فرغت من أعمالها المنزلية فجسلت الى المصطبة ومدّت ساقيها وأسندت ظهرها الى جدار تشتهي كفي بانيه.

تنتصب فوق الصخرة العظمى، ترفع رأسها بكبرياء وتطلق الاسم كترنيمة صلاة.

تتغلغل أشعة الشمس في ضفائرها، وتتدحرج حبيبات العرق على الخدين الموردين، ونسافر معاً عبر الشميم العطر الى مكان ظليل خلف الشمس وقبل الخوف بقليل.

* * *

من كل حبة رمل ينجبس الحب..

بين هرم خوفو وأبي الهول صدح الحزن العراقي ندياً كالجرح حنوناً كأنامل طفل يداعب وجه أمه وهي ترضعه،

لا مسافة بين الذروتين شجناً، فالفرح صباح، ومع انفجار التعاسة يخيم الليل وتنسحب النشوة مجرجرة أذيالها في انتظار الضوء البكر.

رميتِ غلالتك على الصنم المهيب الأخرس وصحتٍ بي: سأعلمك النطق، وسأجعلك تعرف الأسماء جميعاً.

ليس هنا سوانا، القمر وظلال الخالدين وأطياف مآذن القاهرة البعيدة والشعر. من كل حبة رمل ينبجس الحب، كذلك النبع الذي انبجس تحت أقدام هاجر. أشهر حبك واتبعني.

شدنا الرمل فانطويتُ عليك، وأوغل الظل في التوحد حتى كاد يمحي، وهوينا عبر الجنائن المعلقة فوق الشفة الثالثة.

لم نسمع الشاعر، لكن الرمل وشى بنا، والنسيمات الربيعية حملت إليه ذوب ”الآه” التي كنت بها تترنمين، فأطلق شغفه قصيداً  نهراً أسمر كوجه النيل، عميقاً كصدى بحة ناي مفتون بصورة الحبيبة المرشومة فوق الصفحة الفضية لقمر الصحراء المتهادي فوقنا بخيلاء المفرد.

ترقرقت في عينيك الدموع

ترقرقت فوق ثغرك المندى ابتسامة.

ترقرق فوق وجه أبي الهول قمر أخضر، وترقرقت فوق الأهرامات صورة ايزيس وقد استعادت حبيبها من خلف المستحيل..

لم نر الشاعر وهو يسطو على أنفاسنا الحرى ويعيد خلقها وقد طرزها بنغمه الحنون، لكنه سمع تنهيداتنا فبكى ليزيدنا نشوة.

“أنقذني، أنقذني، أنقذني قبل أن أضيع”،

ولم يكن من منقذ إلا الضياع.

وكان خلف الضياع ذلك الحزن المعتق، الذي ولد في العراق ثم لم يعرف كيف يغادره، العراق الذي صلبته مرة أخرى فوق صمت أبي الهول المتوهج بالحب المهاجر.

Exit mobile version