طلال سلمان

وداعاً آخر النقباء وداعاً الصحافة العربية

“راحل أنت، والليالي نزولُ            ومضر بك البقاء الطويلُ”

…ولقد ظل محمد البعلبكي يقاوم الموت، متحملاً أوجاع العمر في السياسة كما في مهنة الصحافة، حتى انطفأت آماله، فرحل بصمت اليأس وفجيعة انطفاء الزمن الجميل، زمن حرية الكلمة وقدرتها على الفعل.
وكان لا بد أن يرحل “النقيب” الذي انتهت معه مهنة الصحافة المكتوبة، وبالتالي نقابتها في بيروت التي كانت قد بقيت وحيدة في دنيا العرب التي ضربها الصمت المفروض بقوة الرقابة العسكرية او الملكية او الاميرية، وهي جميعاً أقسى من رقابة المستعمر الاجنبي.
حاول النقيب الذي أُريد له أن يكون رجل دين، فلما رأى انه “مدني مطلق” اكتفى بأن يحفظ القرآن الكريم بتفاسيره جميعاً، والحديث الشريف، إلى جانب ديوان الشعر العربي بعنوان المتنبي، ثم ذهب إلى الجامعة الاميركية، على الضفة الأخرى، ليدرس ثم يدرّس بعض الكبار من لبنان وسائر البلاد العربية وسوريا في الطليعة، بينهم الزميل القائد غسان تويني والبطريرك الذي ترك بصمته على الحياة العامة، هزيم..
ولأنه “مبدئي” فقد ناضل في صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي حتى السجن. متحملاً مسؤولية موقفه كصحافي شجاع يدافع عن رأيه وموقفه مهما كلفه… ولطالما سرى عن رفاقه المسجونين بتلاوة بعض سور القرآن الكريم، او بقراءة بعض قصائد المتنبي او ابي فراس الحمداني ومتعمقاً للوصول إلى السمؤال و”بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه” وصولاً إلى تحريضه المباشر، “نحاول ملكاً او نموت متعذراً..”.
ولقد جاهد محمد بعلبكي طويلاً لحماية المهنة، وسط زلازل الحروب الاهلية في لبنان ثم في المنطقة، فلما عجز حاول حماية نقابة الصحافة في لبنان كمنبر لفلسطين وسائر القضايا القومية والوطنية، وصولاً إلى القضايا المطلبية، فكانت ملجأ جميع المظلومين والمقهورين والباحثين عن العدالة.
ليست مبالغة أن يقال أن وفاة محمد بعلبكي، نموذج الصحافي المثقف، العقائدي حتى السجن، ملتهم الكتب، راوية الشعر حتى الطرب، حافظ القرآن الكريم حتى الانشاد الذي كان ينشي زوجته الراحلة متجاوزة مسيحيتها.
ليست مبالغة أن يقال أن رحيله هو بمثابة اعلان متأخر بوفاة الصحافة في لبنان، بل في الوطن العربي جميعاً، مقدمة لسقوط “الكلمة” صريعة، ونهاية عصر “اقرأ” و”الذي علم بالقلم”.
أما نقابة الصحافة فقد اقفلت ابوابها منذ زمن بعيد، وكيف تكون نقابة ولا صحافة.
رحم الله النقيب الذي اجتهد حتى النفس الاخير لحماية نقابة ميتة مقاوماُ محاولات اغتيال الصحافة، مستعيناً بعكاز من ارادته ومن “مناقبيته” ومن عشقه للكلمة – الموقف.
…وبين ما يُذكر له وعنه موقفه المعترض على ايقاف “السفير”، في أيار 1993، بطريقة تعسفية، استفزت كل المؤمنين بقضية الحرية، فووجهت بأعرض حالة تضامن مهنية وسياسية، وذهب إلى المحكمة دفاعاً عن “السفير” بل وحرية الصحافة اكثر من خمسمائة محام.. مما اضطر الحكومة إلى التراجع، ثم بادر الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى الموافقة على تعديل قانون المطبوعات بما يمنع التعطيل قبل الادانة والتوقيف قبل صدور حكم المحكمة بتجريم الصحافي.
آخر النقباء: رحمك الله ورحم معك الصحافة اللبنانية التي كانت آخر ما تبقى من رايات الصحافة والكملة الحرة في الوطن العربي..

Exit mobile version