طلال سلمان

وحيد لا يعاني الوحدة

كنت أقرأ لأستاذ في علم النفس عن الإحساس بالوحدة عند كبار السن. وجدت نفسي وأنا أقرأ أمارس تجربة ممتعة، كنت أقرأ وأقارن. أنتمي بحكم السن لهؤلاء الذين خضعوا للبحث الذي قام به هذا الأستاذ، ينطبق على نمط سلوكياتي بعض ما توصل إليه وأختلف في عديد ما أفعل عما يفعلون. أحيا ليس كما يحيون وأتصرف في كثير من الأمور ليس كما يتصرفون. حذرني أكثر من حكيم وأنا أقترب من هذا العمر من حقيقة أنه يغلب عند أكثر السن الإصابة بالشعور بالوحدة فأعددت لهذا المرض الشرير إرادة ونوايا وقفت له بالمرصاد. تغلبت أولا بأول على معظم أعراضه ولكن بالتأكيد ليس كلها.

نماذج كبار العمر في حياتي ليست كثيرة. نموذج منها أعتز به أكثر من غيره وهو جدتي لأمي. لا أذكر أنهم في ذلك الزمن كانوا يأتون على ذكر رقم السنين في حيواتهم، ولكن لم يكن صعبا علينا، ونحن صغار، الحكم على شخص في العائلة الممتدة أنه الأكبر سنا. لم يكن صعبا ربما لطاقة الهيبة التي كانت تحيط بجميع تصرفاته وتصرفات المحيطين به، ولكن أيضا لحكاياته المسلية عن تاريخ العوائل والشارع والحي وهوجة عرابي وثورة سعد وعن أهل الجن والأرواح التي شاركتهم السكن حينا وهيمنت أحيانا كثيرة. توفرت لجدتي بعض هذه الشروط وشروط من نوع آخر. منها مثلا الإحاطة بكل صغيرة وكبيرة تطرأ على أحوال بناتها الخمسة وذرياتهن وأزواجهن. فكرت وأنا أقرأ ما كتبه أستاذ علم النفس عن عدم انطباق كل خلاصاته على الكبار في زمن آخر. جدتي مثلا لا ينطبق عليها صفة أو شرط الميل إلى النأي بالنفس عن مشكلات الصغار وقضاياهم اليومية، ولا صفة تفضيل الماضي وذكرياته عن الانشغال بتفاصيل الحاضر، ولا صفة الإحساس بالوحدة والاستعداد لحالات اكتئاب، ولا صفة الرغبة لتفادي الاختلاط أو الاجتماع بالناس، ولا صفة السعي الدائم والنهم لإشباع الحاجات الاجتماعية، ولا الشكوى من تقطع النوم، ولا اعتذار مستحق ولا ندم على فراق طويل.

أما وقد صرت واحدا من هؤلاء، أقصد كبار السن، صار من باب هواياتي المستجدة أن أتابع وبشغف التغيرات في نمط سلوكي وقناعاتي. لاحظت، أول ما لاحظت، أنني أبتعد تلقائيا عن كل ما يمكن أن يزعج الهدوء الذي اخترت أن أعيش فيه. لا أهرب من المشكلات وفي الوقت نفسه لا أبحث عنها. أظن أن شيئا كبيرا من الماضي عشش في داخلي مخلفا آثارا لا تمحى. يعني مثلا، أذكر أنني نشأت في عائلة ممتدة أغلب أفرادها من النساء. عشت محاطا بحب خمس شقيقات كل واحدة منهن أنجبت ما بين ثلاث إلى ثمان “بنات”. الخالات مجتمعات أنجبن ما لا يزيد عن خمس ذكور، أنا مع صبي آخر كنا الأصغر.

كلنا كان يجمعنا البيت الكبير أيام الأعياد ونهايات الأسبوع. لم يكن بين من تولى رعايتنا والاهتمام بشئوننا خلال تلك الإقامات رجل واحد. كانت جدتي كبيرة القوم وصاحبة القرار والآمر الناهي والحضن الدافئ لكل الأحفاد مع اهتمام خاص بالحفيد الأصغر. كانت الشقيقات يتبادلن مهام الأمومة تحت رقابة الجدة، تحممنا واحدة وتجففنا أخرى وتساعدنا ثالثة على ارتداء ملابسنا وتحملنا الرابعة لتضعنا برفق ونعومة في حضن جدتنا. هذه الصورة حلت في ذهني منذ سنوات الطفولة المبكرة حتى يوم رحيل ثاني أكبر الشقيقات عمرا، وهي أمي. كنت قد بلغت العشرين وأنا أرى أبي مهموما بمصائرنا، مصير أختي الصغيرة ومصيري ومصيره هو نفسه.

اختفى من حياتنا البيت الكبير. رحلت جدتي فانفرط عقد هذا البيت. ثم رحلت أمي فانفرط عقد البيت الصغير. قضيت شهورا أفكر في مصير شقيقتي الصغيرة واستمع إلى شكاوي أبي. رأيته يتصرف كاليتيم. لم يفلح في إدارة البيت الصغير. تدخلت الشقيقة الكبيرة وأصرت أن ننتقل ثلاثتنا إلى بيتها. كنت أستعد للسفر وبالفعل سافرت تاركا بيتا انفرط عقده.

صحيح ما كانت تسر به إلينا جدتي. قالت لي وهي تغادر إلى شقة تسكنها أكبر حفيداتها ليتحول بيتها الكبير برغبتها إلى مدرسة لأطفال الحي، “يا ابني، أما وقد كبرت وصرت رجلا تتمناه كل امرأة زوجا لابنتها، يجب أن تعرف أن المرأة في بيتها مثل عمود الخيمة، إذا انكسرت أو رحلت اتهد البيت زي ما بتتهد الخيمة. صدقني يا ابني مفيش راجل يقدر يحل محل ست البيت. أبوك كان لابنتي نعم الزوج ولكم نعم الأب ولكن وحده لن يستطيع إدارة بيت. أنا عارفه إنه يشعر كالضائع، قل له عن لساني، وهو يعرف جيدا مكانته وغلاوته عندي وعند كل أولادي، قل له روح إتجوز وقلبي راضي عنك”.

سافرت، واستمرت الرسائل بيننا، أبي وأنا، ينقل لي فيها المواقف المحرجة  والصعبة التي تقابله خلال إقامته في بيت ابنته ثم في بيت ابنه الأكبر ثم منفصلا ولكن وحيدا في بيته. يذكرني في رسائله بطقوس عاش يمارسها عشرات السنين وأكثرها حرمها على نفسه فالمكان لا يناسب. رسائل أخرى استمر تبادلها مع شقيقتي وشقيقي وكلاهما يعربان عن تفهمهما حساسية الوالد وحالة الحرج التي يعيش فيها. عندئذ، وكان قد مر على هذه الحالة أعوام ثلاثة، قررت أن أصارح إخوتي وأبي بوصية جدتي في رسالتها التي لم يطاوعني قلبي وقتها على نقلها له. أو لعله عقلي غير الناضج الذي لم يرق وقتها لسمو ورقي وحكمة جدتي. أو لعلها العاطفة الخايبة التي ترفض أن تحل محل أمنا امرأة أخرى.

مرت الأيام، أيام حل وترحال قبل العودة إلى القاهرة والاستقرار في شقة بحي المهندسين. هنا أيضا كانت زوجتي وأم أولادي في إدارتها لبيتها وتربيتها لأولادها عمود خيمتنا الصغيرة. اعتمدنا أربعتنا عليها. ربما بالغنا وتجاوزنا وأنا بالذات. تحملتنا حتى رحلت لأجد نفسي وحيدا بقرار متخذ سلفا، ألا استسلم للشعور بالوحدة، ولا أخضع لسلبيات كبر السن. استفدت من تجربة أبي فلا أكررها ومن دروس جدتي فلا يأس يدب ولا فشل يعطل ولا مزاج يتقلب. قررت أن أبقي على كل من عقلي وقلبي وجسدي في حال استنفار دائم استعدادا للتصدي لأي تغول من جانب جحافل العمر المتقدم.

أعتقد أنني لا أبالغ أو أتجاوز وأنا أقول للأقارب من الزملاء والأصدقاء والأحباء، “نعم لست نادما أو آسفا على قرار اتخذت خلال السنوات الماضية. بل وأنتهز الفرصة لأتوجه بالشكر للزمن تفهمه للنوايا والرغبات التي صرحت بها أو مارستها خلال علاقة طويلة ربطت بيننا، الزمن وأنا، علاقة تخللتها سنوات من سوء الفهم المتبادل وسنوات من العناد والعذاب وعقود من التمرد الممتع”.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version