الديموقراطية عربياً: بين سيف السلطان والحرب الأهلية!
يتهاطل مطر الجدل حول الديموقراطية، في مختلف الأقطار العربية، حتى لتكاد سيول الكلام تجرف المعنى الأصلي لهذه الكلمة »الوافدة« والتي نقلها إلى العربية العديد من المترجمين والمفكرين والمنظرين، واستخدمها الكثير من السلاطين ضد معناها الأصلي مرة ستاراً للقمع، ومرة أخرى أداة زينة لتسويق صورة النظام.
تفتح الصحف فإذا فيها مساحات محترمة للجدل، بين مهتدين حديثا إلى نعم الديموقراطية بعد دهر من المناداة بتقديم وحدة الأمة أو وحدة الطبقة أو وحدة الوطن على الديموقراطيين، وبين مناضلين تاريخيين ضد مفهوم مثالي للديموقراطي يصعب بل قد يستحيل الاندفاع إليه رأسا من وهدة الخضوع المطلق لولي الأمر أو التبعية الصماء لأصحاب الحق الإلهي في الحكم!
أما الفضائيات فهي مجال رحب للثرثرة المجانية وللخلاف »الديموقراطي« جدا بين أشتات الديموقراطيين، لا سيما تلك المحطات الأكبر من البلاد التي تبث منها، والتي لا يشغل بال المسؤولين عنها نتائج مثل هذه الثرثرة التي يذهب بها الهواء بعيدا عن مقر المحطة وأهواء العاملين بالأجر فيها.
وننتقل من التعميم إلى التخصيص بادئين بالأقرب منالاً:
في لبنان مثلاً جدل مفتوح يحتدم حينا ويخفت أحيانا ولكنه لا ينقطع أبدا حول العلاقة بين الديموقراطية والطوائف…
بين »معالم« هذا الجدل أنه يكاد، في بعض الحالات، يصور الطائفية مصدرا أساسيا للديموقراطية، خصوصا في بلد متعدد الطوائف والمذاهب مثل لبنان. الوجه الآخر لهذا المنطق أنه يلغي »الوطن« أي العلاقة بالأرض، ويلغي »الهوية« أي علاقة أهل البلاد بعضهم ببعض كمواطنين، ثم انه يلغي »القضية«، أي قضية لهؤلاء الآحاد الذين جمعتهم المصادفات التاريخية فوق بقعة جغرافية واحدة.
وتزويج الذكر بالذكر أهون من تزويج الديموقراطية بالطائفية والعكس بالعكس.
في الكويت جدل متصل حول »مدى« الديموقراطية، وهل يجوز أن يتسع أفقها للنساء أم لا، ثم هل تسمح طبيعتها بتنسيب »البدو« إليها أم أن ذلك يؤذيها ويشوّهها فيلغيها!
ولأنه لا أحد يستطيع أن يفتي في ما إذا كانت الديموقراطية حقا للذكر من دون الأنثى، وميزة للحضري على القبلي، فإن المعضلة تتخذ أشكالا معقدة عجزت حتى المحكمة الدستورية العليا عن البت فيها ولو باعتماد قاعدة »وللذكر مثل حظ الأنثيين«.
ومع أن نساء الكويت قد أسهمن بقدر آبائهن وأشقائهن وأبنائهن وأزواجهن في إشاعة صورة المجتمع المتحضر في تلك الإمارة الصغيرة فما زال »الذكور« بأقليتهم النافذة يمنعون عن الأستاذات في الجامعة والطبيبات والمحاميات والعالمات والأديبات والموظفات اللواتي بلغن أعلى السلم الإداري، حق الانتخاب… وكأنه أخطر شأنا من تربية الأجيال، مثلا، أو من معالجة مرضى البدن أو مرضى العقل أو من المساهمة في إدارة شؤون الدولة!
أما في مصر فإن الجدل الذي شهدنا ذروة احتدامه خلال الانتخابات الأخيرة قد اتخذ له موضوعا علاقة الدين بالديموقراطية، فإذا مفسرو القرن الحادي والعشرين الذين كانوا يقولون بأنها كفر أو بدعة أو ضلالة قد تحولوا إلى دعاة لها وإلى اعتبارها وسيلة لنشر الدين الحنيف، بينما انقلب ديموقراطيو السلطة على الديموقراطية أو أنهم هربوا من تبعاتها الثقيلة فأغلقوا باب الاجتهاد واعتبروا أنهم وحدهم يستحقون التمتع بنعمها الكثيرة.
وكان بين المفارقات أن يمتنع الحزب الحاكم (العلماني، من حيث الشكل) عن ترشيح مواطنين محازبين من »الأقباط« خوفا من ردة فعل »التيار الإسلامي«، في حين اندفع بعض حملة الشعار الإسلامي بالمزايدة إلى ترشيح »قبطي« على لوائحهم تدليلا على أنهم اهتدوا أخيرا إلى.. الديموقراطية.
في الجزائر يكاد الصراع المفتوح تحت عنوان »الديموقراطية« وهل تكون »عسكرية« مموهة بالحزب الواحد أم »إسلامية« مموهة بالتعددية، أن يذبح البلاد والعباد على الطريقة »الشرعية«، ولو اتخذ من الفرنسية لغة، ومن اللعب على »العنصرية« سلاحا لفصل بربر الجزائر عن عربها، كمن يفصل العين عن الوجه أو الذراع عن الصدر أو الرأس عن الجسد.
في ليبيا تم تصنيف الديموقراطية كدعوة »جاهلية« تضاهي الكفر أو تتعداه إلى تحقير الإنسان، فالتمثيل تدجيل والمجلس النيابي حكم غيابي ولا نيابة عن الشعب و»الديموكراسي« هي لعبة »الكراسي« لا أكثر!
أما في سوريا فالنقاش المستجد يتطرف، في بعض الحالات، فيرى في الديموقراطية دعوة انقلابية تلغي كل ما تقدم، ويقفز من فوق الوقائع والتحولات التي شهدتها البلاد في الأربعين سنة الأخيرة، فتسهل إساءة تفسيره ومقاصد دعاته، خصوصا أن بينهم العديد من خريجي التنظيم الواحد الذي لم يكن يقبل غيره أو يعترف بحق غيره ولو بالمعارضة!
* * *
طبعا تجاوزنا بعض البلاد العربية لأن »الموضوع« لا يعني السلطة فيها وليس مطروحا على »العامة« أقله في العلن، مما يجعل الكلام فيه ترفا أو ثرثرة فضائية!
لكن هذا التجاوز لا يمنع اعتبار الموضوع يعني العرب جميعا، ولو من باب التمني!
.. كما لا يمنع من تسجيل ملاحظات »عابرة« منها:
ان العديد من الأنظمة العربية ترفع صوتها »المسلح« بالتحذير من أن الديموقراطية لا تعني إلا أمرا واحدا هو تسليم السلطة إلى حملة الشعار الإسلامي.
ويكاد بعض أهل السلطة أن يقولها علنا: عليكم أن تختاروا بين نظام ناقص الديموقراطية وبين وصول »الإسلاميين« إلى الحكم بالحرب الأهلية!
وفي زمن مضى، (أوانه ما زال ممتدا؟!) ساد منطق سلطوي و»إسلامي« معاً يحذر العرب من الديموقراطية لأنها دعوة مشبوهة تأخذهم إلى الصلح مع إسرائيل.. كأن الدكتاتورية أو القمع الفكري أو كليهما معاً ضمانة التحرير واستعادة الحقوق الوطنية مع العزة القومية وحفظ كرامة الدين الحنيف.
بالمقابل كان (وما زال) يتواصل التحذير من السلفية الإسلامية لأنها مصدر الفتنة التي ستنقل الناس من ميدان الإعمار والبناء والتحرير إلى الاقتتال الداخلي.
كأن الديموقراطية طريق وحيد الاتجاه يؤدي حتماً إلى تسليم السلطة للإسلاميين.
أو كأن الغباء قد تعاظم فأخذ المواطن إلى التيه باعتبار »السلفية« أو »الماضوية« هي الطريق إلى مستقبله.
وثمة، في العديد من الأقطار العربية، ظواهر من تفاقم التعنت وضيق الأفق والصدر وتعاظم خوف السلطان من أشباح »القوى الخفية« التي تعمل تحت الأرض، تفتح باب الحساب مع الناشطين في العمل السياسي أو الاجتماعي، كما مع المبدعين من كتاب وشعراء وروائيين ورسامين، بأثر رجعي فتحاسب اليوم على ما صدر قبل سنوات أو قبل عشرات السنين.
إن الخوف من الظلاميين يدفع كتبة السلطان إلى قتل الشمس.
والخوف من الجهلة يدفع الذين لا تاريخ لهم ولا هم يمثلون أحداً إلى قتل العلم.
إن التواطؤ بين الظلاميين المتلطين تحت لافتة الدين والمذعورين من احتمال اتهامهم بالخروج على الدين، كامل مطلق.
إن هذين الفريقين وجهان لعملة واحدة.
ومن حظنا أن الديموقراطية ليست سلعة تُباع وتُشترى، وأنها تعلن عن نفسها عبر تقدم مجتمعها وعبر اعتزاز من ينعم بها بوطنه واندفاعه حتى الاستشهاد من أجله فيؤكد حريته بحرية بلاده، بينما الآخرون عبيد للسلطة ولو كانوا مستعبِدين!
لا يلتقي الزمانان
حين قصد المقهى الزجاجي الصغير المساحة لم يكن في ذهنه غير أمر واحد: أن يستمتع بالتدخين وهو يرشف قهوته بكسل المتبطل.
أجال بصره بين الموجودين والموجودات: لا شيء يستحق الذكر. زملاء اجتمعوا للثرثرة في الفاصل بين نوبتي عمل.
حتى تلك الجالسة وحيدة في عمق المقهى لم يكن فيها ما يلفت النظر. النظر؟! بلى ان في عينيها ما يلفت. تحاشى أن يظهر اهتماما، لكنه أحس بعينيها تجولان في كامل مساحة ظهره، كدبيب النمل، فارتعش وقرر المواجهة.
التفت ناحيتها بكل جسمه، فواجهته بنظرة ثابتة تقول ما لا تصل إلى عمقه الكلمات.
من؟ متى؟ أين؟ هل…
ظلت نظرتها ثابتة، والأسئلة بلا جواب.
تشاغل بإشعال لفافة جديدة، لكن ارتباكه تجلى في اصطدام يده بفنجان القهوة، ثم بحافة الطاولة، وسقوط المنفضة بضجيج جعل الفضيحة تتجاوز الحدود الزجاجية للمقهى إلى العابرين خارجه.
قام كالمهزوم. كيف لم يعرفها؟ كيف تركها تعريه فتفضحه بينما هو يحدق فيها كالأبله ويحاول أن يطمس صورتها القديمة التي تكاد تختصر شبابه؟
لا يلتقي الزمانان.
هيا لهرب لكي تبقى خارج سجن زمان أيام زمان؟
ثرثرة منطقية
جاء الرجال بثياب »تنكرية« تكاد تخفي هوياتهم ومناصبهم الخطيرة، وكان وحده »الطارئ« على »النزهة خارج الزمان« وقواعد السلوك.
بعد كأسين التفتت إليه تلك التي ترقص وتضحك وتطلق النكات وتهيج غرائز الرجال في وقت معاً، وقالت له بأعلى الصوت: لماذا لا تضحك؟! لماذا لا تنطلق؟ لماذا لا تحرر نفسك من قيودك؟! لماذا لا تتخفف من بعض ثيابك الرسمية؟! ليس ظريفا أن تكون في وضع »الرقيب« على من جاؤوا للتحرر من الرقابة في البيت والعمل والشارع! هات ربطة عنقك! إنها مانعة للضحك والانطلاق. دعني أنزعها عنك، إنها تليق بخصري أكثر مما تليق برقبتك! تبدو كالمشنوق، أما إذا استخدمتها أنا كحزام لوسطي فستضيف إلى قدي المياس إشراقة اللون! لماذا تغض بصرك؟! ليس فوق البساط ما يغري بالنظر. قد لا أكون ملكة جمال، لكنني خفيفة، لطيفة، ظريفة وإن لم أكن نحيفة، ثم إنني أجمل من اللاشيء الذي تحدق فيه لتهرب مني بل منا جميعا هنا. قد تكون عبقريا.. لكنه ليس مجلسا للعباقرة، لا سيما بعد منتصف الليل. مثلي من النساء من يصنع العباقرة. قال لي الذين يقرأون إن كل عبقري كان له مثلي تمده بالوحي والإلهام وتحمله إلى الخلود! في المدرسة أو الجامعة قد تتعلمون الجزئيات. أما أنا وأمثالي فندرّس الكليات ومعها المتعة. لا يعجبك منطقي! ابتسامتك الباهتة تقول إنني ثرثارة مزعجة، لكن الحقيقة ان منطقي، في هذه الساعة، أقوى من أي منطق نهاري…
جاملها بكلمات مفككة، مؤكدا لها إعجابه بها، بحيويتها وبمنطقها وبصراحتها، فزعقت فيه قبل أن تحمل كأسها مندفعة إلى حلبة الرقص: وهل من المنطقي أن تجرني قبيل الصبح إلى هذه الثرثرة الفارغة بينما كل ما في دنياي فارغ، من رأسي إلى سريري؟!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
سمعت ثرياً يشكو الملل برغم أنه يتنقل بين بيوته العشرين الموزعة على القارات الخمس، وبرغم أن صوره المالئة صفحات المجلات النسائية والفنية تظهره دائما وابتسامته أوسع من وجهه. وقال لي حبيبي: في كوخنا من الدفء ما لا يمكنه أن يشتريه. الحب يجعلك تملك الدنيا، وامتلاك الدنيا لا يأتيك بلمسة حب واحدة!