طلال سلمان

هوامش

محمد الدرة والممنوعون من حماية القدس
يتقدم الدم، منتصب القامة كعمود من نور أحمر، يقفز في الهواء ليرمي حجره، ثم ينحني ليلتقط حجراً ثانياً، ثم يعاود التقدم، شامخاً، في اتجاه مدافع الدبابات التي تسد عليه الطريق، ويظل يتدفق حتى يغمرها ويغرق الجنود ببنادقهم المصوَّبة إليه فيتراجعوا وهم يطلقون كل ما معهم من رصاص.
هو في طريقه إلى القدس. لن يسد عليه الطريق أحد. ولسوف يبلغها. إن لم يصلها وصلته. بل هي فيه وهو فيها، وقوته منها وكذا الشموخ.
من قبل افتداها فحماها، وافتدته فحمته، ولم يفترقا أبداً.
ها هم أجداده ينتظمون مشاعل على الطريق إليها. منهم من سقط دون بابها، ومنهم من رمى بماء النار الغزاة عند سورها. منهم من اعتلى مئذنتها ليرفع الأذان، ومنهم من صعد المنبر ليلقي خطبة الجهاد، وأكثرهم ظل يقاتل حتى مات الموت وسلمت القدس.
* * *
يتقدم الدم، منتصب القامة كعمود من نور أخضر.
إنه الآن وريث الأنبياء. حاميهم والذائد عن مكرماتهم والكتاب. لن يدعهم يدنسون درب الآلام. سيسد مداخل كنيسة القيامة. وسيفرش ذاته لهباً حتى لا ينتهكوا الحرم الشريف. هو المسؤول عن »عمر« الآن. حماه »عمر« مرة، وعليه أن يحميه الآن، كل لحظة، وكل يوم. عليه أن يحمي الجميع. ولسوف يحميهم.
سيأتي الآخرون. سيأتي الأخوة الأقربون. سيأتي الأخوة في الإيمان.
إنه مسؤول عن حماية غيبتهم. لعل لهم عذرهم. لعلهم ضلوا الطريق. لعلهم لم يستطيعوا بلوغ الطريق.
من يُمنع عليه الدفاع عن بيته في مدينته، من يُمنع عليه القتال ضد العدو وهو يجتاح بلاده، كيف سيمكنه الوصول إلى هنا لحماية المدينة المقدسة؟! كل المدن مقدسة. كل القرى مقدسة. هنا العنوان فحسب.
لقد رآهم يحاولون كسر السور المقفل عليهم داخل الجامعة.
لقد رآهم يهرولون في الشوارع هاربين من رجال الشرطة الذين يمنعونهم من مجرد الهتاف باسم القدس.
لقد رآهم تائهين وسط الرايات الملونة، وكل يحاول أن يجعل راية »تنظيمه« الأولى، متقدما بها على صورة القدس الشريف.
لقد رآهم وقد شرّدهم التعصب بعيداً عن الهدف، فحملوا صور قياداتهم التي أضاعت القدس في ما أضاعت، وغطوا بها على صور المدينة التي أعطت التاريخ اسمه.
كيف تحمي القدس وبيتك بلا حرمة، ومدينتك بلا حراسة، وصوتك ضائع في الهواء بلا صدى، فإن سُمع له صدى اعتقلت واعتقل معك الصدى حتى لا يضلل غيرك فيغوي.
كيف يطلب الحرية للقدس أولئك المحبوسون في سجون الممنوعات: ممنوع التظاهر، ممنوعة الكتابة، ممنوعة الانتخابات، ممنوع الرأي، ممنوع التفكير، ممنوع فضح الممنوع وإسقاطه؟!
* * *
يتقدم الدم، منتصب القامة كعمود من نور أحمر.
تتأخر عنه الأسئلة، لكنها لا تغيب عن الأفق:
كيف إذا قام لحماية القدس، بتاريخه فيها، بأنبيائه وأجداده، يتهم بالتعصب الديني، بينما تسمح »علمانية« شارون وتتسع للمطالبة بآثار هيكل لم يثبت أبداً أنه كان هناك!
التعصب عند الإسرائيلي صراع أفكار وعقائد، بين المتدينين والعلمانيين (هؤلاء الذين يواجهون الدم الآن بالدبابات).
من حقهم أن يجيئوا من أقصى الأرض، تحت الشعار الديني، وتحت راية الأسطورة التوراتية، ليبنوا »وطناً«. وبعد إقامة »الدولة« يمكنهم إعلانها »علمانية«، ولكن كل يهودي في أربع رياح الأرض هو »مواطن« فيها!
ممنوع محاكمة الجاسوس الإيراني لأنه يهودي. وممنوع سجن البريطاني أو الأميركي الذي حوكم وأدين بالتجسس لإسرائيل لأنه يهودي، وهو بالتالي إسرائيلي، ولإسرائيل الحق في المطالبة باسترداده لأنه »مواطن« فيها، وهو لا يعرف موقعها على خريطة الدنيا.
السفاح علماني، وأنت متعصب وداعية للحرب الدينية.
قاتل محمد الدرة وأقرانه الأطفال والفتية علماني، ومحمد الدرة إرهابي ينادي بالجهاد المقدس.
محمد الدرة، الطفل اللاجئ إلى حضن أبيه، المتلطي خلف حجر في قريته المدفونون أجداده فيها، كان يهدد دولة إسرائيل بالحرب الدينية، فحق عليه العقاب.
يجبرون محمد الدرة على توحيد الوطن والدين ثم يتهمونه بأنه متخلف، رجعي، لا يفصل الدين عن الدولة وعن السياسة.
* * *
يتقدم الدم. تتقدم القدس. تتقدم كل المدن المحاصرة. تتقدم كل الأفكار المحاصرة. تتفجر كل الكلمات الخرساء. تتهاوى صور السلاطين المرفوعة لتزوير التظاهرة والمسيرة والشعار والهدف. تحترق كل الأعلام والرايات الفئوية.
تبقى صور محمد الدرة علامة على الطريق.
لا قداسة للقدس بلا محمد الدرة وسائر الشهداء.
لا قداسة للقدس إذا ظل السلطان أكثر قداسة من الوطن.
لا قداسة للقدس ما لم يبدأ واحدنا بفك الحصار عن نفسه ليتقدم…
يتقدم الدم، منتصب القامة كعمود من نار ونور.
مبارك تقدم المبارك. مقدس المتقدم إلى القداسة.

بين »المسدسات« في »مدينة الماء«!
لم أكن أتوقع أنني سأحظى بشرف الصحبة مع كل هذا الحشد من الخالدين وأنا أنزل على حسابي في ضيافة »مدينة الماء« التي بناها شارل الرابع، ملك بوهيميا منتصف القرن الرابع عشر.
من دون تخطيط، على عادة العرب، وعن غير قصد كما هي أعذارهم دائما، وجدتني أقتفي آثار أقدام مجموعة من عباقرة العصور ممّن تعوّدنا أن نقتفي آثار أيديهم، وأختلط بهم في حنايا الغابات التي تتعالى هامات أشجارها حتى تكلل رؤوسها بأقواس قزح وتنثر مهرجان اللون عشوائيا على أوراقها فيشب الحريق بألسنته الحمراء في الأعالي بينما يتأخر الربيع في لملمة زركشته من القلب، وتظل متسلقات الجذوع عند تخوم البرد غارقة في الخضرة المبللة لشتاء لا ينتهي.
قال الدليل ونحن نستظل تمثال غوته: جاء الجميع إلى هنا، طلبا للهدأة والصفاء، وللعلاج بغير دواء. في الماء الشفاء، فكيف إذا كانت درجة حرارة المياه المثقلة بالمعادن 72 درجة مئوية عند تفجرها ينابيع على حافة الغليان من باطن الأرض؟!
غرقت في تأمل أحوالنا، بينما أكمل الدليل شرحه فقال ينافقني: في أمثالكم، كما أبلغني بعضكم، أن المعدة بيت الداء. هذا صحيح. وهذه المياه بما تحمله من خلاصات المعادن تشفي أمراض الكبد والمعدة.
لم أسمع بقية الشرح. عندنا يا سيدي أنواع من »بيت الداء«. عندنا أصحاب المعدة التي تتسع للقصور واليخوت والمزارع والحيتان، للمصارف وشركات المال والمضاربات… وهم مرضى بالتخمة وسوء الهضم! وعندنا أيضا من معدته »بيت الداء« لأنها خاوية، وهي لا تعرف الغذاء إلا لماماً، ولا تعرف منه إلا الفقير الذي لا يقيم الأود…
عاد الدليل المتباهي بمعلوماته يكرز علينا الأسماء المشرفة بإنتاجها الذي خلدها: أنت في صحبة شاعر ألمانيا الأكبر غوته، وأعظم موسيقي في العالم بيتهوفن، وبعض أعظم الفلاسفة فرويد وليست، وكذلك برامز وفونتين.
في ساحة صغيرة في آخر السوق، حيث تقوم النافورة العالية التدفق، في قلب المعمل المعالج للمياه، لفت نظرنا تمثال برونزي عتيق تتصدره نجمة داوود المسدسة الأضلاع.
لم نسأل، لكن الدليل أفاض في شرحه الذي لم نسمعه جيدا أو أننا لم نفهمه لأننا لم نر له صلة بمدينة الماء هذه،
عند باب الفندق، كانت تنتصب بضعة أعلام، يتوسطها علم إسرائيل بنجمة داوود المسدسة الأضلاع… ثم انتبهنا إلى أننا لمحنا هذا العلم ذا النجمة مرفوعا فوق أبواب معظم الفنادق،
في الغرفة »أشعلنا« جهاز التلفزة لنتابع أخبار بلادنا، وجلنا بين المحطات نحاول التعرف على الناطقة بالعربية منها، وإن كانت صياغتها أميركية بلكنة إسرائيلية، فاستوقفتنا النجمة المسدسة إشارة لإحداها.. قال الدليل: هذه محطة اليهود الروس!
نزلنا إلى المطعم لنرمي شيئا من الزاد في »بيت الداء«، وحين تقدمت منا الخادمة شديدة التهذيب، وانحنت لتكتب طلباتنا التمعت النجمة المسدسة تتدلى من عنقها وتتأرجح بين النهدين الذاويين بفعل الزمن!
… عدنا إلى الغابة متعجلين، وقد حرصنا على أن نمر بالخالدين فنحييهم شاعرا شاعرا وفيلسوفا فيلسوفا وموسيقارا موسيقارا.
لا يهم ان عبقريتهم قد خلدتهم.
نحن أهل البترودولار يمكن لنا أن نشتري كتبهم ومؤلفاتهم جميعا، ومعها تماثيلهم أيضا.
في »مدينة الماء« تذوقنا كيف تغص بريقك ألف مرة في اليوم!

صياد ورحت أصطاد.. صادوني!
في صالة الطعام بالفندق الصغير كان على الجمع الآتي من أنحاء مختلفة أن يتلاقى أفراده ثلاث مرات في اليوم، وفي مواقيت معلومة بحيث يصير التغيّب خبراً.
في البدء كان الشعور بالغربة ممتزجا بالفضول لاكتشاف »الغريب« الآخر.
تقوقع الذين يجمعهم الانتماء إلى بلد واحد، فصاروا جبهة تحاول أن تستكشف القادمين الجدد، جنسياتهم، لغاتهم، عاداتهم ومدى استعدادهم للتكيف والانضباط في قلب الهمس.
وكنا »أقلية« وسط المجموعات المتقاربة الأقطار واللغات.
أصغوا إلى أصواتنا، في لحظات تبادل الكلام القليل، فلم يعرفوا اللغة، ولم يتوصلوا إلى تحديد الهوية.
تأملوا الملامح، فاختلط عليهم الأمر. دنيا »السمر« واسعة جدا، وبعض المتأملين والمتفرسين يحملون بشرة سمراء مثلهم وأكثر.
وصارت مفردات قليلة من اللغة الإنكليزية تحاول أن تربط بين المتلاقين في قلب المصادفات والمفترقين غداً بلا وداع.
من باب التفكهة والترويح عن النفس وإشغال الوقت الفارغ بشيء من »الضجيج« أخذ يصنف »الزبائن«: هذه بطة عجفاء، وهذا عجل سمين أو مسمَّن، هذه بومة معادية للابتسام وتكره الضاحكين، وهذا ديك الحي ينفش شعر صدره ويتمشى وسط المتدثرين بمعاطفهم أو بقمصانهم الصوفية وكأنه يدعوهم إلى المبارزة… بالثلج! وهذه حسناء مقهورة بزواجها من هذا التنين! وتلك المتصابية تحاول استدراج الكهول إلى التغزل بها لكي تستمتع، من بعد، بعراك الأزواج والزوجات اللواتي لم يكنّ مهيآت للمنافسة.
ربما لأنه كان يقدس الحب لم يقترب بتصنيفاته من أي زوجين رآهما منسجمين ترفرف فوقهما طيور السعد وهما في نشوة مَن ما زال يستمتع بمذاق العسل.
وربما بسبب من خوفه من أن يكون مراقباً، امتنع عن تتبع الأزواج، وركز اهتمامه على الفتيات الوحيدات.
جاءت المصادفة قدرية: في المصعد لوحده مع أجمل الوحيدات!
سأل بالإنكليزية قبل أن يضغط على الأزرار: قبل الطابق الرابع؟!
لم يصدر عنها ما يدل على فهم السؤال، لكنها مدت يدها لتضغط على زرار الطابق الخامس.
انفتح الباب في الرابع، التفت ليحييها، تهذيباً، بهزة من رأسه، فقالت له بلغته: تصبح على خير، وانتبه إلى الباب فهو سريع الانغلاق.
وقف مشدوهاً، بينما أمسكت بباب المصعد لكي تضيف بهدوء: وارحم الآخرين في تعليقاتك!. في أي حال لقد قالوا فيك أكثر!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
مَن هذا الغبي الذي ادعى أن »الحب أعمى«؟! الحب كالهواء ونور الشمس، لا يحتاج إلى عيون للانتشار والتغلغل في ثنايا القلب والنفس. قد ترى بعض المحبين فلا تعجبك أحوالهم، وقد تستكثر على واحدهم أن يكون حبيبا فتتهمه، أو تتهم حبيبه بالعمى. هذا موقف من هو خارج الحب. الحب لا يُرى إلا من داخله، بل هو يُعاش ومشهده الخارجي مجرد »ترويج« لهذه النعمة الإلهية التي لا تحتاج الى دعاة ولا مبشّرين!

Exit mobile version