طلال سلمان

هوامش

إدوار سعيد يكتب فلسطينيته بالحجر!
ذهب طائراً على جناح الشوق. وصل فلم يصدق أنه لغ هدفه، ترجل من السيارة وركض فصدمه الشريط الحاجز، ومن خلفه الجدار الاسمنتي الذي أقامه جيش الاحتلال ليحتمي خلفه بعد انسحابه من أرض احتلها حديثا إلى أرض احتلها قديما.
تقدم في الطريق الحد. لم تستوقفه البساتين الكثيفة الشجر المثمر، والمنسقة والمروية والتي تملأ المساحة بخضرة داكنة. تجولت عيناه بحثا »عنهم« حتى عثر على بعضهم في البرج العالي يراقبون هؤلاء المحتفلين الذين لا تنتهي مواكبهم، وتتزايد أعلامهم الصفراء بكلمة »الله« في قلبها معطوفة أو حاضنة للبندقية، والذين يجيئون للتثبت من أن الاحتلال قد اندحر متراجعا، وقد يرقص بعضهم وقد يدبك البعض الآخر على وقع الأناشيد الحماسية التي تحيي »أبا هادي« وحزب النصر.
بحث طويلاً حتى عثر على حجر منسي، فأخذه بين أصابعه، شد عليه، وقفز مرتفعا بكل جسده الذي هدّه المرض، كفتى في عز الشباب، ثم أطلق الحجر نحو البرج والقابعين فيه وفي أياديهم المناظير المكبرة ذات الزجاج الأخضر، والتي يمكنها أن تكشف »المتسللين« ليلاً أو في عز الظهر!
سقطت ألقاب البروفسور والأستاذ الجامعي والمؤلف الموسيقي والعازف الماهر، ولم يكن إدوار سعيد، في تلك اللحظة معنيا بأن يستعيدها.
إدوار سعيد كان، في تلك اللحظة، فتى الانتفاضة الغائب أو المغيَّب أو المحجور عليه مع حجره في أقبية »السلطة« المحاصرة داخل شرنقة الاحتلال داخل الكيان الصهيوني.
إدوار سعيد كان، في قفزته التي تمكنه من أن يطلق الحجر بعزم أقوى، الفتى الفلسطيني المصري السوري، عاشق لبنان، المتشوق لأن يمارس عروبته، منفصلا عن هوية التنكر الأميركية التي يتلطى بها، ومستعيدا من لغة الضاد التي قلّ استخدامه لها حتى لم يعد يحفظ منها الكثير… وبين ما يحفظ تلك الألفاظ التي يحتاجها أو لا يحتاج إلى غيرها في هذه اللحظة!
إدوار سعيد، مارس فلسطينيته لمرة، في أرض خارج الأرض التي »يحق« له أن يرشق فيها جندي الاحتلال بحجر!
فمن يدخل يفتَّش بدقة، فإن كان يحمل حجرا صودر سلاحه وأعيد هو من حيث أتى!
افترض ان إدوار سعيد تلبث فترة، بعد إطلاق حجره، كما فعلنا جميعا، يتأمل أولئك »المخلوقات« من جنود الاحتلال القابعين في قلب الخوف، في برج الحراسة، ولا بد من أنه تساءل كما تساءلنا: هل هم بشر، حقا؟! هل يعرف واحدهم من هو تماما، وأين هو تماما، وأينه من هؤلاء الذين على »الطريق« في البلاد التي قاتلوها وقتلوا منها وفيها خلقا كثيرا قبل أن ينسحبوا مهزومين منها؟ ثم… من أين أتى هذا الجندي المصفح بغربته؟! أتراه روسياً أم أوكرانياً؟ أتراه بولونياً أم مجرياً أم رومانياً؟! لا يمكن أن يكون أميركياً فأولئك من أهل الصفوة الممتازة لا يخدمون في مواقع الخطر، بين أشداق الموت. إذاً، هو ليس من مواطني الدرجة الأولى. لو كان يهوديا من أصحاب الدم الأزرق لما جيء به إلى هنا. لعله، إذاً، وإذا كانت سمرة البشرة دليلا، »عربي« الموطن الأصلي. لعله استُقدم من المغرب، أو من تونس، أو من العراق… بل لعله »لبناني« الأب، أو »سوري« الأم، لكنه ليس نتاج هذه الأرض الفلسطينية. هذا مؤكد!
إنه هنا على الحاجز. بل إنه هو بذاته الحاجز. وإدوار سعيد، الفلسطيني، في البعيد البعيد، لا يستطيع أن يكون ذاته. لا يستطيع أن يكون من فلسطينه وفيها. لقد أخذ هذا الوافد من بعيد، من قلب الأسطورة، والمولود في قلب المدفع، مكانه منه بهذا السلاح الذي في يده والذي يختبئ خلفه فيلغي السماء خلفه، أو يختفي فيلغي الأرض تحته.
الحجر يحفر اسم فلسطين في الهواء.
يذهب الحجر إلى فلسطين ويبقى إدوار سعيد خارجها.
يكتب إدوار سعيد ويكتب. يخاف أن يتوقف عن الكتابة فيموت أو تموت فيه فلسطين. يكتب حتى تصير فلسطين في وجدان كل الذين يقرأون.
أحلى ما كتبه إدوار سعيد نقش في الحجر على فضاء فلسطين.
قطع الحجر المسافة بين الزمانين الفلسطيني والإسرائيلي في ومضة.
إدوار سعيد: حجرك هو الكتابة!

أولادكم المعولمون…
في المقهى كانت الصحيفة ثالثهما، وهي مفتوحة على تحقيق مصور عن »كتاب الحياة« بكل التفاصيل المتصلة بالكشف العلمي المثير حول خريطة الوراثة البشرية، وما سوف ينتج عنها من »زلازل« في سلوك الناس، أسراً وأفراداً، أباء وأمهات وبنينا وبنات.
قال لصديقه بشيء من الزهو: عال العال… سأصنع ابني غدا، وفق المواصفات التي أريدها. سأجعله أبيض البشرة، أزرق العينين، طويل العنق، عظيم الصدر، وله دماغ عالم.
قال صديقه من غير أن يبتسم: إذاً، سينكره عليك كل من يعرفك!
في مقهى آخر كانت العجوز المتصابية تقول لصديقة لها: سأجعل ابنتي هيفاء القامة، وليست مكورة مثلي، أسيلة الخدين، نجلاء العينين، عظيمة العقل، مرهفة المشاعر… سأفصلها على المسطرة. سآتي بالقاموس، فأحقق فيها مقاييس الجمال الكلاسيكية، ثم آخذ من الشعراء لمسة من السحر تجعلها الأنضح والأجمل من بين الصبايا.
وسألتها الصديقة ببراءة: ومن أين تأتين لها بالشبيه؟ بالأصحاب؟ بالخلان؟ ثم بالزوج؟! ستكون وحيدة في بابها، ولكنها لن تستطيع أن تعيش لأن البشر »الناقصين« سيبتعدون حتى لا يفضحهم »كمالها«!
يمكن الاستطراد في هذه التخيلات إلى ما لا نهاية..
سيبيعك الأطباء أولادا حسب الطلب. لكنهم لن يكونوا أبناءك تماما. ولن تكون أباهم تماما. ولا أمهم ستكون أمهم تماما.
سيخسر الأب الأبوة. ستخسر الأم الأمومة.
ستذهب العاطفة هباء، وتندثر الحياة، وينتحر الشعر.
سيكون »ابنك« ولد العشرات من العلماء والباحثين والدارسين والعاملين في المختبرات العلمية.
سيكون ولدا »عالميا«.
ها هي العولمة تدخل ظهور الرجال وبطون النساء.
ها هو الاستنساخ يطل من جديد عبر »كتاب الحياة«.
ستكتمل الحلقة: الناس نسخ متطابقة، تقريبا، يلبسون الملابس نفسها، يأكلون الطعام نفسه، يسمعون الموسيقى نفسها، ويتماثلون الى حد أنهم قد يكفيهم اسم واحد.
ثم… ما ضرورة الاسم ما دام أنه بلا ملامح! ربما كان الرقم أفضل! كيفك مستر »X«.

»فمتو ثانية« لزمن اللحى الجاهلية!
على امتداد ربع ساعة، حاول العالم المصري الأميركي حامل جائزة نوبل أحمد زويل أن يشرح لنا عبثا معنى ال»فمتو ثانية«، أي الجزيء الذي يعادل واحدا على مليون من المليار من الثانية!
كان ينظر إلينا فيقرأ في عيوننا الدهشة، الاستغراب، الخوف، الفضول، الذهول، محاولة التخيل، لكن القدرة على الفهم ظلت غائبة.
أخيرا انتبه الى عبث المحاولة فضحك وقال بلهجة ابن البلد المصرية: ما هو لازم تنسوا الجمل، وقياس الزمن بوحدة السنة أو الشهر أو حتى اليوم الذي يقبل القسمة فقط بحسب مواعيد الصلاة: الفجر، الضحى، الظهر، العصر، المغرب والعشاء…
ضحكنا فضحك وسألناه: وماذا نفعل بفائض الزمن؟ ان زمننا يفيض عن حاجتنا الى استثماره. ان أمثالنا مثل حكاياتنا مثل مواعيدنا تستخدم اليوم كوحدة قياس: قبل الظهر، بعد الظهر وفي الليل…
اننا كثيرا ما نحار في كيفية قتل الوقت حتى لا يقتلنا الضجر تحت وطأة مروره فوقنا متقدما بالقادرين على توظيفه واستثماره، بينما نحن نتحسر على الفرص الضائعة.. والتي غالبا ما لا نتنبه الى ضياعها إلا بعد فوات الأوان.
»فمتو ثانية«…
يبدو أن كهرباء الزمن لا يقتلها القصف الإسرائيلي، ولا يقضي عليها التقنين الاداري الوزاري خوفا على المواطنين من الانبهار.
فمتو ثانية يا دكتور زويل؟!
وماذا نفعل بالسنين الضائعة؟ بالعقود المهدورة؟! بالأزمان المرمية إلى النسيان حتى نعود بهدوء إلى الجاهلية فنرتاح فيها؟!
هل تأملت نماذج اللحى »الأصولية« في عصر »الفمتو ثانية« يا دكتور زويل؟!

قصص مبتورة
اندلقت الرغبة في الصحن فلم تعد به رغبة إلى الطعام.
قال الشيطان في عينها اليمنى: متى موعدنا؟!
غمغم الملاك معترضا في عينها اليسرى.
أما الإنسان فيه فقد اكتفى بابتسامة قصيرة، قبل أن يقوم منصرفا الى حيث يجد بشرا ضعفاء مثله يعيشون برغباتهم فلا ينثرونها في الصحون الفارغة في المطاعم المزدحمة بأكلة اللحوم!
***
كتبت إليه تقول:
»السرداب طويل، ونور العينين شحيح. والبرج شاهق الارتفاع غليظ الجدار…
والأنامل رقيقة على شفا الانكسار، والصوت دعوة مفتوحة، لكن الباب مغلق.
ولست أحب أن أتأرجح على حافة القلق.
مَن يستدرج مَن؟
لا بد من شيء من الانحدار لكي أصلك.
وداعاً. تعلمت أن أتطلع إلى الحب فوق. إن قدرتَ فارتفع إليّ«.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
يعيش كل إنسان حبه وكأنه آخر المحبين، ويروي حكايته بشغف من يقص عليك حكاية لم يعشها أحد قبله ولن يحظى غيره بمثلها أبدا! عظمة الحب انه يجعلك الأول، ويجعل قصتك الأبهى والأجمل بين ملايين ملايين العشاق الذين لولاهم لكان العالم جحيماً. الحب هو النعيم الموعود، وهو يتسع لكل الموعودين بالمرتبة المحفوظة لمن يستحقون الحياة.

Exit mobile version