طلال سلمان

هوامش

ليس القتل جيرة طيبة مع »بديلك« المفترض!
حين تركنا صور وراءنا ميممين وجوهنا نحو الناقورة، اكتشفنا أن زرقة البحر أكثر بهاء وإشراقا، وتبدت لنا تلك الهضاب ذات التربة الفقيرة وكأنها ترتدي ثوب العيد خفيف الخضرة المزركش بقلادات الوزال والقندول الصفراء ذات الإشراقة المتوهجة بأجمل من الذهب.
الهواء نظيف، الأرض نظيفة، السماء نظيفة، البحر نظيف، والبيوت التي بواباتها ورد ودفلى وختمية نظيفة، بحيث تخاف أن يفسد نقاءها دخان العادم تلفظه السيارات المتزاحمة لتشهد انبلاج الفرح فوق تلك التلال التي تتدرج ارتفاعا وكأنها تأخذك دائما إلى فوق، فوق، فوق بحيث يغدو »الاحتلال« تحت قدميك.
تشحب الكلمات أمام مجد الإنجاز الذي حققه بسطاء الناس.
لا يحتاج دم الشهادة إلى الفصاحة، ولقد اندفع المجاهدون إلى الشهادة بصمتهم العميق الذي علّمنا القراءة والكتابة بل وتوغل بنا في قلب المعنى فإذا نحن شعراء.
للأرض المجد، فالإنسان بأرضه.
يلفتك الشريط الذي ينغرز سكاكين وخناجر في قلب الأرض، ويمتد فيرافقك بامتداد الطريق بين أصحاب الحق وغاصبي الحق، بين أهل الأرض التي تعرفهم من أنفاسهم كما من وقع أقدامهم كما من ملامسة أياديهم الخشنة لزيتونها وتبغها المعذِّب، وبين الأرض التي أُخرج منها أهلها فصارت مشاعاً لخونة أوطانهم ممّن لم يربطهم بأرضهم الأصلية حب أو ولاء فهجروها وجاؤوا ليستعمروا أرضاً تنكرهم كل صباح ألف مرة.
هذا هو حد الموت الجديد بينك وبين »بديلك« المفترض.
ليس القتل جيرة طيبة.
وليست الأسلحة النووية جاراً قريباً يفضل الأخ البعيد!
تلقي السلام على »فاطمة« التي أعطت اسمها لإحدى بوابات حاجز الإرهاب الدولي المطلق، ثم تبتعد بعدما نفرت عينك من مظهر ذلك الجندي المصفح بغربته وعدائيته، والذي لا يداري كراهيته لك إلا بخوفه منك.
ترقى الطريق صعداً حتى تلامس كفك الغيم وتستحم عينك في خضرة سهل الحولة: ها هي فلسطين التي أبدلوا شعبها واسمها، لكنهم لم يستطيعوا أن ينتسبوا إليها ولا أن ينسبوها إليهم إلا بعد تمزيق التاريخ والجغرافيا بحراب، شارك في صنعها الغرب باستعماريه القديم والجديد.
كل ما أتوا به غريب… وكل ما أقاموه فوق أرضها هجين لا يأتلف مع طبيعتها، ثم ان له دائماً طابع المؤقت.
البيوت »قطع جاهزة«، تركب إلى جانب أو فوق بعضها البعض، وتوصل بالكهرباء والهاتف والمياه على الفور، ويستوطنها المستقدمون بالإغراء على عجل، والذين يعرفون أنهم طارئون ومعتدون فلا يتحركون إلا خلف بندقية محشوة والإصبع على الزناد.
إنهم يعرفون أنهم يتحركون في قلب الخطر: خطر استفاقة الضحية، أو خطر تفجر غربتهم تحت ضغط التمايز والتمييز العنصري.
لم يبنِ أحدهم بيته بيديه.
لم يضع في أساساته نسخة أو صفحة من كتاب مقدس، ولم يأت جيرانه في »عونة« لصب السطح، ولم تضع الأم خميرة على بابه لحمايته من شر الحسد ومن الشيطان الرجيم.
البيوت، مثلهم، مستوردة، ليس لها علاقة بالبيئة، ولا صلة لها بالتراث المعماري للمنطقة، وهي مكوّمة في مربعات حربية الطابع يفرض الإحساس بالخطر الناشئ عن حقيقة الغربة والفاضح لطبيعة الجريمة التي أدت إلى اقتلاع أصحابها الأصليين ان تكوَّم كقلاع محمية، ومؤهلة لرد الهجوم المحتمل دائماً، ولو بعد حين.
أغراب في بيوت غريبة على أرض غريبة، والأدهى أنها قد شُيدت بأيدي أولئك الذين كانوا (وما زالوا) أصحاب الأرض وأصحاب البيوت التي نُسفت لإخلاء المكان لزرق العيون، هؤلاء، الآتين من عوالم البُعد والظلم والقسوة.
ابنِ لي بيتاً فوق جثة بيتك أو أحفر لك قبراً أدفنك فيه، أو فاخرج من أرضك إلى الشتات في عالم يرفض الضحية A NAME=”BWHR1″ /A الضعيف ويصدع للغالب المتجبر!
هذا هو الوعد الذي يقدمه لنا »الجار« الذي أُسقط علينا بقوة السلاح، ويُراد لنا أن نعيش معه (بل عنده) بسلام!!
كيف يمكن أن تنشأ صداقة أو علاقة »عادية« بين متجاورين في المكان بالاضطرار بينما يفصل بينهما كل ما يكوِّن الإنسان، من لون الشعر والعيون، إلى المسلك والقيم الأخلاقية، إلى تذوق الشِّعر والقصة، إلى الارتباط بالأرض، إلى المشاعر… كيف يتآخى الخائف من الإرهاب المفتوح مع المخيف الذي يبرر جريمته بأنه قد خاف في مكان آخر فجاء إلى هنا لكي يهدأ روعه ليطمئن؟!
كيف يصالح القتيلُ قاتله ويغفر له ويصفح ثم »يعيش« معه بأمان، ودمه ما زال على السكين يتنزى منها فتشربه الأرض لتؤكد هويتها بانتمائها إلى دمه؟!
لننسَ فلسطين… فنكبتها قديمة، سبقت أعمارنا وقد تبقى بعدها.
كيف السبيل لأن ننسى إسرائيل؟!
كيف نتآخى مع الصاروخ الموجَّه إلى صدورنا، مع الطائرة التي تمنعنا من رفع رؤوسنا والمشي بغير انحناء؟! كيف نتبادل الود مع هذا الذي لا يعترف بنا كبشر ويقرر ونعرف أن إلغاء مستقبلنا هو الشرط الضروري لاطمئنانه إلى حاضره؟!
يمتد الشريط الحاجز الآن بين بندقيتين.
إنها الصورة النموذجية للجيرة بين القاتل والضحية.
احفظ بندقيتك في يدك، ذلك شرط حياتك في هذا الموقع الذي اختاره »المجتمع الدولي« لرسل حضارته الجديدة المرتكزة على التراث التوراتي الذي وضع أسساً ومعايير ومواصفات للقتل الجماعي والذي سخَّر »الإله« شخصياً لإبادة مَن لم يستطع مواجهته.
كيف تتعايش مع مَن ينظر إلى إلهه وكأنه قاتل مرتزق يعمل في خدمته؟!
دع سلاحك بيدك ودع عينك مفتوحة.
الأرض بإنسانها.
الأرض الحب والشعر والجمال والخير والحق والعدل.
الإنسان بأرضه… فاحفظ أرضك تمنحك الفرح والعزة ودفء القرب من الله.

هل أعتذر عن الحضور أم تعتذرين عن الغياب؟
كانت الغرفة الضيقة شديدة الازدحام بالنساء المكتنزات ومآسيهن التي أخذتهن إلى فرح ما بعد اليأس.
كان الليل بصمته يقف عند الباب، وكان الهواء خلف السحر لم تفلت منه نسمة واحدة لتكسر حدة الحر، وكان البحر يقبع في سكونه الأبدي حتى لتحسبه قد سرَّح أمواجه واستقال من وظائفه جميعاً.
لم تفد الطرائف المستعادة أو التي استولدتها المفارقة في كسر بلادة الجلسة.
وحين صدحت الموسيقى بات ممكناً الانفراد بالذات وإعادة تركيب الجلسة بما يناسب العطش إلى النشوة.
من أين جئت؟
لا انفتح باب، ولا انصفقت نافذة، ولا مجال للتوهم بانشقاق الجدار. لنفترض، إذاً، أنك قد تدليت من السقف.
لماذا المخادعة؟! لقد استحضرتني الموسيقى.
تأملت الأنامل الرشيقة للعازف الرقيق الحاشية فلمحت طيفك ينسل خيوطاً من نور، قبل أن يتكامل في الخلف، كظل لأصل غامض على شاشة سحرية.
هل كان عليّ أن أعتذر عن الحضور أم كان عليك أن تعتذري عن الغياب؟
انتشى العازف باستذكار حبيبه الهاجر، فتدفقت أشواقه نغماً مذاباً، وظلَّلنا الوجد فنأى كل بأحلامه أو أوهامه أو ذكرياته متناسياً الآخرين الذين اتخذوا الآن أشكالاً جديدة تستدر العطف وتستمطر الأحزان دمعا ثخينا.
لست أنا إذاً. لا أنا المصدر، ولا أنا السبب، ولا أنا المرجع. لماذا تخادع نفسك وتخدعني. لنفسك تعيش، والكل خارجك. تريدنا لاستكمال جو المتعة، ولكي تتباهى من بعد بأنك النجم والمعشوق الذي تترامى عند أقدامه النساء. هنيئاً لك هاته النساء.
كان العازف الرقيق قد سافر مع النغم بعيدا عن الجميع، وكان العود قد استحال إنسانا سوياً يغريه الاحتضان بأن يطلق وجعه شجياً كصرخة استغاثة.
أراد أن يصرخ »كفى!«، فلم يجد صوته. تمنى أن يبكي فلم يجد دمعه. أراد أن يفرح فدوى من حوله الفراغ وتهاوى الغرور في لجة فرح ما بعد اليأس!

قصص مبتورة
} تعوّد أن يصل متأخرا، فيضطر لأن يساعد في حمل ثوب العروس.
مرة واحدة وصل في الوقت تماماً فإذا العروس قد ذهبت إلى غيره بلا ثوب.
قالت تلومه ولا تعتذر: خفت أن تتأخر فيلغى الزفاف!
وعاد يبحث عن عروس أخرى تحتاج مَن يساعد في حمل ثوبها!
} توغّل الصياد في الغابة يقوده حذره ورائحة الطريدة.
انتبه فجأة إلى حركة، فاختبأ في دغل، ثم أخذ يتقدم بخفة من خلف شجرة إلى خلف شجرة أخرى… وفي المحطة قبل الأخيرة أحس بأنفاس الطريدة تحرق مؤخرة رأسه، فدار على عقبيه متحفزا تتقدمه بندقيته وإصبعه على الزناد.
حبس أنفاسه، وأزاح غصناً كان يحجب عنه المدى، حين شعر بحركة خلفه، والتفت فإذا صياد آخر محبوس الأنفاس يواجهه ببندقيته.
وانفجرت قهقهة مدوية قادت الصيادان الخائبان إلى أقرب حانة ليشربا كأس السلامة!
} كانت كلما كتبت سطراً شطبه،
وكان كلما همّ بأن يقول كلمة سبقته فنطقت بها منغمة.
وكان لا بد من تواطؤ على تقاسم المعنى.
فلما نجحا في »ترسيم الحدود« عاد المعنى ليتلطى في كلمات تحتاج إلى صوت جديد ليقولها.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
قد يجيئك الحب ويتأخر الاعتراف به، فلا تضغط على حبيبك بخوفك من اليأس منه. الحب ينمو في حنايانا بهدوء، تماماً كالجنين، ويتكامل بالرعاية حتى ينفجر بتلك الصرخة المبشرة بالولادة. من يحبَّ فلا ييأس. مَن يحبَّ فلا يتعجل الإشهار. عش حبك لحظة بلحظة. إنه حياتك كلها فهل تبخل عليه بأيام أو بشهر… وتذكر أنه هو المعنى لعمرك كله فلا تهدره بطيش يأخذك إلى الخيبة ويمنعك من دخول جنته.

Exit mobile version