طلال سلمان

هوامش

بيت الناشر زجاج .. فأين بيت القارئ؟!
من زمان، من ثلاثين سنة أو يزيد، كان مما يبهجني خلال جولاتي المهنية في العواصم العربية المتباعدة أن أتأمل »الحركة« في المكتبات التي كانت بمعظمها تقوم بمهام دور النشر ووكلاء البيع و»الصندوق« الخارجي لبعض المؤسسات الصحافية.
كان »القراء« ينتظمون طوابير، يتحرك بينهم موظفو المكتبة فيناولون معظمهم »الجديد« الذي وصل من عواصم النشر، وبالتحديد بيروت والقاهرة، أو يخبرونهم »بنزول« بعض الكتب المهمة، أو يبشرونهم بقرب وصول هذه أو تلك من المطبوعات التي تباع »بالحجز«.
كان المنظر أشبه بالمتزاحمين في عصر يوم رمضاني على الفرن أو على بائع الحلويات: المشترون يتدافعون، في أيديهم النقود، ثم ينفضّ جميعهم وقد عاد كل منهم بما جاء يطلبه ليكون مؤونته في انتظار »الشحنة« التالية.
لم يكن »للرقابة« من ذكر، ولعلها كانت شكلية… وذلك كان ينطبق على الكتب، أجنبية وعربية، وعلى الصحف والمجلات والدوريات عموماً.
آنذاك لم تكن »ثمة« فضائيات وأطباق لاقطة يستحيل فرض الرقابة والمنع بالزجر عليها، ولم يكن العرب قد عرفوا الكومبيوتر والأنترنيت.
وآنذاك كان »القراء« في مختلف أرجاء الوطن العربي كثيرين جدا، ولم يكونوا محصورين في العاصمة أو بعض أحيائها الغنية فحسب بل كانوا موجودين في كل مكان، في المدن والقصبات والأرياف جميعا.
آنذاك كان للكلمة وقع، وكان مقال ممتاز لكاتب كبير يجد صداه في مختلف العواصم العربية.. وأحيانا كان يشكل منطلقا لتأسيس حزب جديد!
وثمة منظر لا أنساه أبدا: ففي نهاية الستينيات التقيت في بغداد صديقا كان من قادة حركة القوميين العرب… وخلال اللقاء، وقد تم في جانب معتم من مقهى شعبي، أخرج من جيب سترته الداخلي نسخة من مجلة »الحرية« التي كانت تصدر في بيروت كلسان حال للحركة. كانت مطوية أربع طيات حتى غدت بحجم الكف تقريبا، وكان الاستعمال المتكرر قد أتلف بعض الكتابة فيها، قال الصديق: انها مهربة من الكويت، وقد قرأها قبلي أكثر من مئة. اننا نتعامل معها وكأنها صفحات من كتاب مقدس!
القارئ موجود ما غابت الرقابة، فمتى حضرت كان عليه ان يغيب وإلا غيّبه القمع الغبي في السجون… فالقراءة تعني الحرية، والحرية تعني الاعتراض على الحاكم، والاعتراض تآمر، والتآمر الى جهنم وبئس المصير.
أمس، هتف لي المهندس إبراهيم المعلم صاحب دار الشروق ومنشئ مجلة »الكتب وجهات نظر« الممتازة من القاهرة. قال: أحدثك من معرض الكتاب. لم يسعفنا الطقس كثيرا، لكن التظاهرة ضخمة وان كان البيع أقل من المتوقع.
قبلها بفترة وفي معرض الكتاب بدمشق سمعت شكوى مشابهة: المتفرجون كثر، المشترون قلة.
وفي معرض الكتاب العربي الدولي تتزايد الشكاوى عاما بعد عام من تناقص القراء، حتى من طرف الذين »يبيعون« أكثر!
الجدل طويل حول الأسباب: الرقابة، الأمية، انشغال الناس بهمومهم اليومية، التلفزيون (والفضائيات)، والآن الأنترنت، الكلفة العالية للانتاج الجيد، قلة الذمة عند وكلاء البيع، الخ…
مع ذلك فإن دور النشر تتزايد في مختلف العواصم العربية ولا تنقص، والعناوين طوفان من الإصدارات الجديدة، حتى لو كان معظمها عن الطبخ وبعض جوانب الفقه أو التفاسير ومختلف مشتقات الكتابة حول النص الديني.
وأسئلة كثيرة تفرض نفسها ومعها الريب والشكوك والاتهامات حول واقع النشر والقراءة: أين الحكومات وأجهزتها من دنيا النشر؟ أين الجهات الأجنبية الممولة ومَن وماذا تمول؟! كم نسبة الكتب التي يتحمّل مؤلفوها كلفتها وسواء أكانت شعرا أم نثرا أم بين بين؟!
»بيتنا زجاج ونرشق بالورد والحجارة«، ليس كتابا جديدا ولكنها محاولة جريئة للإجابة عن مجموع الأسئلة التي تحوم في سماء النشر والتي لو جُمعت لشكلت »ديوانا« جديدا لقصيدة »النثر« أو للنشر »الحر«.
هذه المطبوعة التي أصدرتها »دار الجديد« بقائمة منشوراتها، تصدرتها مطالعة ممتازة تطرح مشكلات النشر جميعا، وتحاول الإجابة عن مختلف الأسئلة سواء منها التشكيكية أو الاتهامية أو حتى البريئة، بأسلوب هو غاية في الأناقة وفي الدقة، على صعوبة لغته الأصيلة بالنسبة لأنصاف الأميين وللجهلة في أصول اللغة ومفرداتها والذين يشكلون نسبة كبيرة من جمهور القراء.
لعل »رشا الأمير ولقمان سليم« قد أخذا عن الوالد القدير تمكنه في القانون ودقته في التحقيق والتدقيق وبراعته في إظهار المخبوء أو توضيح المطموس لإخفاء معالم الجريمة… وهكذا فقد نسجا مرافعة ممتازة تتجاوز الشكوى إلى طرح القضية السياسية للنشر إضافة الى موقعه من التجارة أو الرسالة أو التبشير.
وليست رشا الأمير أول سيدة تدير دارا للنشر، ولكنها بالقطع الأوثق علاقة بالكتابة وبالأفكار وبالهموم الثقافية التي تشكل لب السياسة ومضمونها:
»لعشر سنوات خلت، راهنّا على القارئ، وكان رهانا غاية في التواضع وفي الاقتصاد.. فمن مئات الملايين الناطقين بالعربية لم يعد رهاننا، بعد أن خرَّجنا الأميين (وأنصافهم وأرباعهم) والمتلفزين وغير ذوي القدرة الشرائية، لم يعد ان كان على أقلية كفيلة بأن تستهلك من طبعة كتاب ما يقوم، على الأكثر، بأكلافها«.
على أن المطالعة تنضح بالمرارة التي تكاد تستوطن اللغة اليومية لرشا الأمير! فأنت تغرق في لجة المرارة، وربما اليأس، ورشا تواصل طلس الشاشة أمامك بالأسود: استئخار التوقيع على وثيقة وفاة جماعية! لمن الكتب والكتاب؟ شريكتنا الدولة! الخجل العربي من انعدام القراء! هل تؤجر دار الجديد اسمها وخدماتها كل عابر(ة) سبيل؟ لماذا يضطر المؤلفون والمؤلفات الى نشر كتبهم وكتبهن على نفقتهم؟! انك لا تُقرئ من تشاء!
حتى الملاحظة الأخيرة على الغلاف الأخير نقدية: »هذا الإصدار لا يحمل رقما دوليا متسلسلا بسبب من تلكؤ وزارة الثقافة والتعليم العالي (اللبنانية) في متابعة هذا الشأن«.
حسناً، ماذا بعد طرح المسألة؟!
ما العمل؟!
رشا لا تعرف. لقمان لا يعرف. ونحن لا نعرف. لكننا نتشاكى، يا أخا العرب.
»إقرأ«! لكن الرقيب لا يهتم كثيرا بهذا الأمر الإلهي أو أنه ينفذه وحده، فيقرأ ثم يوفر علينا المشقة والجهد لكي يحمي لنا نظرا لا يرى، وإن رأى لم يفعل غير التحسر قبل أن يقع صاحبه على قفاه ليتابع آخر المباريات الرياضية أو آخر المناقشات الفقهية أو آخر الاشتباكات السياسية حول الماضي، على بعض فضائيات الألفية الثالثة التي لم يدخلها العرب بعد، ولا يبدو دخولهم إليها قريباً!

الثلج يمحو عناوين البكاء
يجتاحنا الموت كطوفان من العتمة فتنكسر الهامات الصلبة وتنحني الرؤوس التي كانت تخترق الفضاء، وتنطفئ في العيون التماعة الحزم بمجد القرار.
يمشي الناس إلى المثوى الأخير فوق حطام آمالهم العريضة. يصرخ المفجوع بالمفجوع وتستبكي الحزانى الحزانى، فإذا الفقيد يتعدد، وإذا الموتى يعودون الى الساحة جميعا يواكبون المسيرة الباكية. يخرج من كل بيت فقيده ويتلاقى الضحايا من حول ذويهم المغلقة عيونهم بالأسى فلا يرون. يتجمع النشيج المتعدد النبرات ويتوحه من حول الفقيد الأخير الذي يكتسب ملامح جميع الذين سبقوه.
كيف صبي الحياة البكر يصير فتى الموت الأخير؟!
يا فتى الفرح الآتي إلى أين تأخذنا عبر أدغال الخوف والذهول والأمل الموؤود؟!
تتندى الوجوه النضرة للفتية الذين نادرا ما عاشروا الحزن واستظلوه، والذين حتى تلك العشية كانوا على موعد مفتوح مع البهجة والمتعة والنجاح، لا يغادر أحد أحدا، والذين كانوا يستشعرون مزيدا من القوة والصلابة لأنهم دائما متوحدون. لا ينفض جمعهم ولا يتفرقون إلا لكي يتلاقوا من جديد: على مقاعد النجاح المدرسي، وإلى أطباق الطعام البيتي الشهي، وفي أجواء السهرات التي تنشر جواً من العافية والفرح في الحي كله، وتعوّض النقص في الماء والكهرباء وأسباب الرفاه في البيوت الدافئة للفقراء القانعين.
زرعنا شجرة جديدة للحزن، وجاء الثلج فمحا عناوين البكاء، وعاد كل الى بيته ومعه صورة فتى الفرح الذي اختارته الحياة الثانية.
(تحية للفتى الذي سبق الفرح: محمد…)

ثرثرة النظر!
قال العجوز للعجوز: لماذا تهرب منا النساء؟! لا تقترب منا إلا من كانت تحت العاشرة من عمرها، أو من تجاوزت الستين!
رد العجوز على العجوز: يهربن؟! اننا بالكاد نراهنّ!
هل اتسعت بيننا المسافة بفارق الزمن أم هو النظر قد قصُر فقصَّر؟!
لست أدري… على ان كل من أراهنّ فتيات في سن المراهقة، صغيرات، تجتهد الواحدة منهن في استعارة ملامح الكبيرات ليبدون نساء! واحدة تنفخ صدرها، بينما لا يزيد الحجم من المتعة، وتلك تضخِّم شفتيها بينما الأرق أندى، وأخرى تزيد الكحل من حول عينيها لتبدو أنضح، بينما يكمن الشيطان في الحدقة!
كلهن صغيرات، إذاً، فأين ذهبت السيدات؟!
بل كلهن كبيرات يتصاغرن فيزاحمن الفتيات. صارت النساء نادرات، اما »الصبايا« فبعدد النمل!
ذكرتني، عافاك الله، »بالصبية« التي تنتظرني في البيت. كلما عدتُ إليها تلمستْ كتفي وصدري لترى ان كان علق عليّ بعض شعر العشيقة التي كنت معها! أتعرف، يخطر لي أحيانا ان أرمي على كتفي بعض الشعر الأشقر لأحظى ولو وهماً بنعمة الاتهام بالعشق! علماً بأنني أكاد لا أرى الشعرة لأضعها، ولا حبيبتي تراها لتضبطني متلبساً.

تهويمات
* أتدثر بصوتك فيأخذني دفء الانتعاش إلى الحلم.
أما في ليل الصمت فأدور أبحث عن ملجأ يقيني الريح الثلجية التي تسبقني إلى الفراش فتطرد منه النوم، وأسبقها إلى الصباح لأتلقى مع الهمسة الأولى خدر الدفء في الكلمة المسحورة »حبيبي«!
* في الحزن اشتاقك أكثر، أنت الفرح.
يمكن تقاسم الفرح مع الجميع،
الحزن كالحب: لاثنين، وما فاض منه كان مشاعاً للآخرين!
* قالت: لست أتخيّل حبيبين إلا ومعهما أم كلثوم ثالثاً.
قال: أما أنا فأحببتك وعبد الحليم الثالث.
قالت: عبد الحليم وقلة من الأصوات الدافئة مثله تأخذك إلى الود والفرح بالشباب وتفتح باب النشوة. أما الحب فيجيء على أجنحة اللهفة التي تخترق مرارة الحيرة والتساؤل والقلق وتجعلك تطوق بأنفاسك ذلك الذي عاش عمره يبحث عنك…
إنكما تلتقيان في أفياء »رق الحبيب«، وتسافران عبر صوت الحب الذي يمتد بامتداد العمر.
كما لكل طائر غرّد صوته فإن للحب صوتا يحمل اسم أم كلثوم.
* قالت: دائماً الوعد، متى تنجز؟! متى الاكتمال؟!
قال: لا أظنك تطلبين حباً جاهزاً… تبنيه معي، فننجزه معاً، وتكون ولادتنا الجديدة اكتمالاً.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا يهرم الحب ولا يشيخ ولا يذهب به ضعف الجسد أو منغصات الحياة، بما فيها افتراق الحبيبين بالغصب والإذعان. يتجاوز الحب العمر والقارات والظروف، ويظل حياً بانتظار شرارة لقاء فإذا نوره يشع فيسقط كل المعوقات والموانع القاهرة. عرفت كيف تتبرج الحياة وكيف ترتدي السماء ثوبها الأجمل، أمس، وأنا أراقب التقاء حبيبين بعد افتراق طويل. الحب ولو ليوم، حياة كاملة!

Exit mobile version