I ـ «صناجة العرب» نجم عبد الكريم يستعيد قديمه ـ الجديد!
ليس مألوفاً أن يتقاعد من له مواصفات «صناجة العرب»، ولكن من حق الدكتور نجم عبد الكريم أن يستعين على حاضره بماضيه ليضمن حضوره في المستقبل… وعلى هذا فقد عاد هذا الأستاذ الجامعي، الباحث، الكاتب، الصحافي، الشاعر حينا وذاكرة الشعر أحيانا، إلى «قديمه» المعتق، وبعضه «الحديث» في الخمسينيات وبعض آخر في الستينيات، أي إلى زمن مراهقة هذا الممتلئ حيوية وظرفاً بحيث يمر به الزمان مر السحاب.
هو «المثقف العصري» البدوي المنبت، فهو عراقي الأصل كويتي النشأة.. ولأن لا حدود بين الرمال المذهبة للجزيرة العربية وأرض السواد، ولا تخوم قبلية تفصل بين رعايا هذه المساحة الهائلة التي تم تقطيعها إلى دول شتى، فقد كان «نجم» يغني الحزن العراقي في الجنادرية، ثم يظهر عصبيته الكويتية إذا ما تجرأ أحد على المس بكرامة «شيخ العود» الكويتي… أما في لندن فلطالما شهر سيف عروبته (الذي لا يستخدمه إلا في رقصة «العرضة») في وجوه «الشعوبيين» و«المتفرنجين»، ورد عليهم بلغة شكسبير كتابة وعبر الإذاعات المرئية والمسموعة حتى أفحمهم، ثم دعا نفسه إلى العشاء، ما دام الحساب بالنكتة والتورية والتماعات الظرف واللجوء إلى تقليد الجميع، كبراء وأمراء ومطربين ومطربات وباعة متجولين.
يصعب تحديد إطار للتعريف بنجم عبد الكريم.. فهو كاتب وأستاذ جامعي، وهو راوية من الدرجة الأولى يحفظ ديوان الشعر العربي، وهو محدّث لبق وصاحب أسلوب في رواية النكتة وتقليد من لا يقلّد من أصحاب المقامات، وهو محدّث قدير بذاكرة ممتازة يمكنه الاستشهاد بوقائع وأحداث شهدها في معظم أرجاء الوطن العربي، كما في الولايات المتحدة فضلاً عن بريطانيا العظمى وبعض أوروبا.
هذا عن «نجم» أما عن كتابه ـ بالجزأين ـ وقد أصدرته دار رياض نجيب الريس، تحت عنوان «شخصيات عرفتها وحاورتها ـ أحاديث في الفكر والسياسة والفن»، فهو أقرب إلى «الكشكول»، إذ فيه ما لا تتوقع عمن تعرف من المشاهير، أدباء وفنانين وأصحاب رأي وبعض أهل السياسة.
ونجم عبد الكريم «متعدد الكارات» والمواهب.. فقد كان ضمن مؤسسي فرقة المسرح العربي في القاهرة، وشارك في فيلم «صقر قريش»، حين كان موفدا ومراسلاً لإذاعة الكويت في الستينيات ثم لإذاعة أبو ظبي. ثم إنه رَأَسَ قسم المنوعات في تلفزيون الكويت قبل ان يذهب إلى جامعة كولومبيا ليحصل على الماجستير ثم الدكتوراه ويباشر التدريس في جامعة الكويت.
هو يعتبر ان ما نشره في الكتاب بجزأيه حصيلة نصف قرن في حقول الإعلام والثقافة المختلفة، وصولاً إلى كتابة أسئلة برنامج «من سيربح المليون»!
ولقد بدأ «نجم» وراء الميكروفون في الإذاعة معداً ومقدماً ومخرجاً ومحاوراً وكاتباً للبرامج.. ثم اقتحم التلفزيون وتسلى في أوقات فراغه بالتمثيل في المسرح والسينما، من دون أن يتوقف عن ممارسة هوايته: الصحافة.
يحتوي الكتاب بالجزأين محاورات (إذاعية وتلفزيونية أصلاً) مع المئات من الشخصيات الثقافية والسياسية والفنية، بينها ـ مثلا ـ حوار مع الشاعر العراقي بدر شاكر السياب قبل أيام من وفاته في المستشفى الأميري في الكويت.. ثم مع نجيب محفوظ وبنت الشاطئ ونزار قباني وأم كلثوم والشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، والصحافي الكبير أحمد بهاء الدين، والدكتور صلاح البيطار.
[[[
بين الوقائع التي يستعيد روايتها نجم عبد الكريم حكاية الرسالة التي وجهها الشاعر الكبير نزار قباني إلى الرئيس جمال عبد الناصر، إثر منع ديوانه «هوامش على دفتر النكبة» من التوزيع في القاهرة.. وقد جاء فيها: «سيدي الرئيس، لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه والمجروح على جراحه، ويسمح باضطهاد شاعر عربي أراد ان يكون شريفاً وشجاعاً في مواجهة نفسه وأمته، فدفع ثمن صدقه وصراحته. يا سيدي الرئيس: لا أصدق أن هذا يحدث في عصرك…».
وقد أجابه الرئيس عبد الناصر على رسالته بتوجيه دعوة رسمية إليه ورفع الحظر عن دواوينه.
… وحكاية عن أدونيس: يقول نجم إنه عرف الشاعر من ديوانه الأول “مهيار الدمشقي”، فوجده لا يخرج من معركة إلا ليدخل في أخرى، سواء في مجلة «شعر» أو في كتابه «الثابت والمتحول». ويروي أن نزار قباني جاء مرة ليحضر أمسية لأدونيس في لندن، فكان في جملة ما قاله فيه بعد نهاية الأمسية: شعرك القديم لا يحمل قيمة فنية. أما شعرك الجديد فمعجزة.
وربما بتأثير من أدونيس اقتحم نجم دنيا الصوفية، وعاش معه الانخطاف والنشوة والحلم والتخيل وهو يقرأ لابن عربي والحلاج والنفّري، ففهم كيف تحمّل الحلاج وحده معاناة عالم بأسره وكيف تميز النفّري بتلك اللغة الشعرية الرائعة كما أدهشه ابن عربي باستشرافه الكونية. ولخص أدونيس نفسه بالقول: أنا شاعر ونجد هي عاصمتي، فقصيدتي الأولى تعلمتها من أستاذي امرئ القيس.
يروي «نجم» أيضا لقاءاته (الإذاعية) مع الفنانة تحية كاريوكا التي كشفت له اسمها الأصلي بدوية محمد ابو العلا النيداني كريم.. وأنها أخذت اسمها من راقصة برازيلية. وروت له كيف امضت في السجن 155 يوماً، وأنها تزوجت 14 مرة…
في الكتاب، بجزأيه، مقابلات مع عشرات الكتاب والفنانين، وبينهم المخرج الراحل شادي عبد السلام الذي كان شخصية مثيرة للجدل بسبب من فكره السياسي، وبين آرائه: أن تكون صعيديا يعني أن تكون، بالضرورة فرعونياً.
وهناك مقابلة مبكرة مع الكاتب المسرحي سعد الله ونوس وقد قال له فيها: إنني أتنفس المأساة تلو المأساة.. ولقد فكرت في إيجاد مشروع جديد للمسرح يستند إلى أرضية واقعية لكنها ترتدي حلة تاريخية، وبين مسرحياتي التي لم تنشر (يومذاك) «ميدوزا تحدق في الحياة ـ فصد الدم ـ لعبة الدبابيس ـ المقهى الزجاجي ـ جثة على الرصيف ومأساة بائع الدبس الفقير».
يروي نجم ان الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين وجه إلى الرئيس جمال عبد الناصر رسالة يطالب فيها بإعادة التنظيمات السياسية، فرآها بعض الكتبة طعنة في الظهر. وينقل عن عميد الأدب العربي طه حسين: أرجو ألا ينتهي الشعر العربي لأنني أعتقد أن اللغة أشد قوة وحياة وخصبا من أن ينتهي الشعر فيها.
أما عن عباس محمود العقاد فيروي انه التقى زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس، فقال له: أنا زعيم الأمة.. رد العقاد قائلا: أنت انتخبت من بضعة أشخاص، لكنني كاتب الشرق.
يستعيد نجم مقابلة مع الراحل الكبير الدكتور عبد الله الطريقي. أحد أبرز من نبه العرب إلى خطورة النفط كسلاح، وهو الذي عاش عاشقا للعروبة منبها إلى خطورة النفط كسلاح استراتيجي للتقدم واللحاق بالعصر عربيا، وربما لذلك «طرد من وزارة النفط التي استحدثت في السعودية، فجاء بيروت وفيها أصدر مجلته ـ المنارة «نفط العرب» مع صديقه نقولا سركيس.. قبل ان يقتله الحكام بقوة النفط… وكان يقول: «اننا أمة تملك أعظم الأنهار، النيل، دجلة والفرات.. وتملك الأرض، و60 في المئة من احتياطي النفط. في العالم وفي أرضنا الخصبة الفوسفات والحديد».. لكن هذه المقابلة منع بثها، فطلب الطريقي منه الشريط.
ولقد شاخ الطريقي وهو في الستين، وصدمته زيارة السادات للقدس المحتلة، وأودت به أزمة العقل العربي في عجزه عن مواجهة التحديات.
[[[
في الكتاب، بجزأيه، من الذكريات ما يدفع إلى البكاء، وفيها ما يثير الضحك، لكن التسجيلات القديمة تكشف في بعض مضامينها بعض ملامح ما انتهى إليه العرب… خصوصاً مع القراءة الواعية للتحولات التي شهدتها المنطقة.
ليس نجم عبد الكريم في الكتاب «صناجة العرب»، ولكنه لعب ـ من حيث لا يقصد ـ دور العرّافة، وأمتعنا بأن أعادنا، ولو للحظات، إلى الزمن الجميل الذي مضى ولن يعود!
II ـ واجد دوماني يستحضر زمانه الجميل من تركيا إلى بيروت عبر الكويت
هي مذكرات «رجل في الصفوف الخلفية» لكن واجد دوماني عرف الكثير الكثير عما يدور في قصور السلطة من صراعات ومؤامرات وعمليات تقريب وإبعاد، فحفظ الأسرار، وهو «الغريب عن الديار» حتى أتعبته، فقرر ان يكتب سيرته الذاتية ليس لانه «خطير» ولا لأنه صاحب دور استثنائي، ولكن ليستعيد شبابه على الورق، وليلبي طلب ابنه احمد ومن بعده شريكة العمر والبنات والبنين والأصهرة وكلهم معروف…
واجد هو ابن أحمد أورخان بك الذي يعود نسبه إلى السلطان أورخان بن السلطان عثمان مؤسس السلطنة العثمانية.. وقد تخرج أحمد من المدرسة الحربية، في اسطنبول ووصل إلى رتبة عميد ـ طابور كومندان، وكانت أسرته تقيم في مدينة أضنه.. وهو لم يستجب مع العديد من الضباط لنداء قيادة أتاتورك واعترضوا على هجر لغة القرآن الكريم إلى اللاتينية التي تتعارض مع القرآن الكريم. بعدها عرضت عليه القيادة العسكرية الفرنسية (التي حلت محل الأتراك) منصب قيادة الأمن العام والشرطة في مدينة انطاكيه.. ثم صار رئيسا لشركة الريجي في مدينة جرابلس التي يدخل منها نهر الفرات إلى سوريا، والمحاذية لمدينة كاركاميش عاصمة الحثيين… ومع تعرض الأرمن للمذابح تدفقت وفود المهاجرين منهم إلى سوريا عبر هذا الشريط. ثم ترشح احمد لرئاسة البلدية وفاز بها لينتهي أخيراً في دمشق حيث توفي وواجد في العام السابع من عمره.
يروي واجد انه جاء إلى بيروت فتى وحصل على الجنسية اللبنانية لأن له أقرباء من عائلة دوماني في لبنان، وذلك بتوصية من تقي الدين الصلح… وربما بتأثير من الصلحيين عموما انتسب واجد إلى حزب الضباط بلا جنود: “النداء القومي”. وبعدما نال الليسانس من الجامعة اليسوعية بدأ تدريس اللغة العربية في مدارس المقاصد.
بعد ذلك بدأ واجد دوماني الترحال في أقطار الخليج: البحرين أولاً ليدرس العربية لأولاد الأمراء، ثم الكويت التي عاش فيها زمنا، وشهد قيام «الدولة» فيها.
في الكويت نجح واجد في الوصول إلى العائلة الحاكمة، بداية مع الشيخ صباح الأحمد (الأمير الحالي) وكان يومها وزير الخارجية والإعلام، ثم مع العديد من الشيوخ عموماً، ومع الشيخ جابر العلي خاصة. ومع إنشاء السفارة الكويتية في بيروت اختير واجد دوماني كملحق إعلامي فيها.. وهنا، تحديدا، برزت كفاءة «ابي احمد» في العلاقات العامة، إذ صار منزله ملتقى للأدباء والكتاب والصحافيين، يلتقون فيه المسؤولين الكويتين خلال وجودهم.
كان بين نجوم المضافة الدومانية من الشعراء عمر أبو ريشة، نزار قباني وزوجته بلقيس، ومن الفنانين فيلمون وهبي ونصري شمس الدين وصباح فخري وبليغ حمدي وأحمد مظهر فضلاً عن الأديبة غاده السمان.. وقد حدثه نزار قباني، في لندن، عن كاظم الساهر الذي كان يقف كالتلميذ امام أستاذه.
ولقد لعب واجد دوماني دوراً خاصاً في توثيق العلاقات بين العديد من المسؤولين الكويتين وأهل السياسة والحكم في لبنان.
الآن، يعيش واجد دوماني الجد شيخوخته بهدوء، محاطاً بقبيلة من الأبناء والأصهار والأحفاد… وهو قد وجد في كتابة مذكراته فرصة لتأكيد انه ما زال منتجاً، وقد ساعدته الزميلة ليلى الحر في هذه المهمة.
يحفل الكتاب بذكر أسماء العديد من شيوخ العائلة الحاكمة في الكويت التي يعرف واجد الكثير من أسرارها وشبكة التحالف والخصومة بين أفرادها، وهو قد تجاوز ذلك لأنه لا يمكن أن يسيء إلى من أحسن إليه…
أما الجزء المصور لمراحل حياة واجد دوماني فيضم إلى جانب الأبناء الأصهار وبينهم الرئيس نجيب ميقاتي والدكتور باسم يموت ونبيل الخليل.. وكذلك اللقاءات بين العديد من شيوخ الكويت مع كبار المسؤولين في لبنان، فضلاً عن كبار الصحافيين والفنانين.
وبالتأكيد فإن ما كتمه واجد دوماني أكثر مما كشفه من وقائع حياته بشبكة العلاقات الواسعة التي أنشأها ورعاها حتى صارت دارته في الجبل ملتقى فريدا في بابه، في زمنه الجميل.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ عندما يخفي حبيبي عينيه بكفه أو بالشعر المعطر أعرف أنه عاتب حتى حدود الغضب.. لكنني أطمئن عندما تزغرد البلابل فتكشف ما اجتهد في أن يواريه، وهو يسمع اعتذاري عن شح في نظري!